اللوحة: الفنان التشيكي جاكوب شيكانيدر
لا يزال وقع عجلات “الحنطور” يقع بأذني موقعًا غامضًا، يجمع بين الطرب، الحزن العميق، سمعت صهيل الحصان المسنّ، كأنما يُعلن عن قدوم ضيف غير مرغوب فيهم، فانطلقت كطفل دون الخامسة بأشهر، أستطلع الأمر، أشب على أطرافي لقِصَر قامتي وقتها، تطل من عيني دهشة كبيرة.
لا تزال بقاياها عالقة بين أهدابي، تفلّت من بين براثن أمي، التي بدورها كانت تخشى تكرار حادثة قديمة، تركت ندوبها أسفل حاجبي الأيمن، لكنّي كنت أسرع منها حركة، لم أصغ لدعوتها لي بالعودة، قطعت الطريق حتى وصلت للعربة، رمقني سائقها بنظرة حِرت في إدراك ما وراءها وقتها، لعبت مع الحصان العجوز، جذبت شعيرات من ذيله الطويل، فصهل من جديد،
لكنه أعلن غضبة خفيفة بركلة من ساقه الخلفية، لوى عنقه الطويل ثم بعث إليّ بنظرة كأنما يودعها رجاء أن أدعه وشأنه، فتحرّجت التزمت الصمت، أكتفي بالمشاهدة، دقيقة ثم نزل من “الحنطور” ثلاثة أشخاص شداد غلاظ، هكذا تصورتهم آنذاك، فارتعد قلبي لرؤيتهم، أجفلت، ترددت بالعودة لأمي، لكنّي فوجئت بها تصحب أبي للعربة، بيدها حقيبة جلدية كبيرة، أسلمتها للرجال، الذين رأفوا بأبي المريض، تسنّد على اثنين منهم، حتى صعدوا به، أفسحوا له مكان بالعربة.
بعدها ضرب السائق بطن عربته بقدمه فانطلق رنين جرس، ليخبر الكافة أن عربته بطريقها للمغادرة، فأفسحنا لها الطريق.
ودّعته و أمي، في رحلة ذهاب للعلاج منذ خمسين عامًا، ظلّت تنتظره على ناصية الزمان، كلما سمعت قرع جرس”حنطور”، تُهرع خارج البيت، يرجف قلبها، يموج وجهها بخوف وفرح في آن.
لا زلت كلما مررت بالحي القديم، أذهب لشارعنا، الذي تغيّرت ملامحه عشرات المرّات، تساقطت بناياته و بيوته، شُيّد مكانها أخرى.أترك عقلي على مقعدي بعربتي الحديثة، أنطلق وراء قلبي، لا أعلم أنّي وصلت لمبتغاي إلاّ حينما أسمع صهيل “حصان” يأتيني من لا مكان، حين أستشعر نظرة ترمقني من قريب، و من خلفها تنساب نسمة دافئة يهدأ لها قلبي وتستكين روحي، يذوب أمامها بعض من شتاء حلّ منذ نصف قرن.