شرر ودخان وأشياء أخرى

شرر ودخان وأشياء أخرى

محمد نديم علي

اللوحة: الفنان الأميركي جون برامبيلت

كاد أن ينفجر، رغم عدم كونه قديما.

فرغم ضخامته وعمره الذي لم يجاوز الأعوام الأربعة.. لا أدري ما الذي حدث له.. رأيته يوما ما وهو يدمدم غيظا.. ويخرج من جانبيه الدخان! كنت دائما استمتع بمشاهدة الأخبار على شاشته الكبيرة.

ولهذا الجهاز حكاية:

خرجت من السوبر الماركت الضخم محملا بأشياء تافهة اشتريتها. قابلني موظف لامع يرتدي ربطة عنق لا تناسب لون القميص ولا البنطال.. كان قصيرا.. ضئيلا.. وحين ابتسم لي بدا وكأنه فم كبير.

أصر أن أعبئ (كوبون) المسابقة التي يُجرى فيها السحب على جوائز قيمة تمنح للزبائن وأشار إلى الخارج عبر زجاج المحل، ومد ذارعه مشيرا إليها بطريقة مسرحية قائلا: وها هي الجائزة الأولى:

سيارة (رولز رويس).

 نعم أقسم أنها (رولز رويس) ومن نمط حديث.. لا أعلم لماذا سألته من فوري والجائزة الثانية؟

رد قائلا جهاز تلفاز 38 بوصة.. دهشت.. فالفارق كبير بين الجائزتين!

بادرته ضاحكا: لعلكم ستمنحوننا التلفاز هدية فوق (البيعة) مع السيارة الفخمة!

لم يرد ولملم ابتسامته. شعرت بالحرج و.. التفاهة أيضا.

ما علينا، دونت معلوماتي الشخصية على الكوبون، وأصر هو أن يريني كيف يحفظه في علبته الخاصة، وأعطاني عدة ملاحظات عن يوم السحب، وكيفية استلام الجائزة عند الفوز بها، رغم أن كل هذه المعلومات كانت على ظهر النصف الآخر من الكوبون في يدي.

سألت نفسي هل فعل هذا مع كل الزبائن؟

ذهبت إلى البيت.. وأنا أحلم (بالرولز رويس) لعدة أسابيع. وقد فعلت بالسيارة الأفاعيل.. فمرة فضلت أن أركبها كسيارة خاصة وأن أمر بها أمام الجيران في مسيرة (إغاظة واستعراض).. ومرة.. أن أبيعها بملايين الدولارات وأسافر حول العالم، ومرة أن أستبدلها بسيارة يابانية وآخذ فرق السعر وأبني به بيتا في الريف الفرنسي، ومرة أن آخذها إلى قريتي.. ليشاهدها أفراد القبيلة التي لم يحلم أحد فيها بأغلى من حمار صحيح البدن ليركبه إلى السوق!

أخذتني الأوهام بعيدا، وكان الحلم جميلا. تكفينا أحيانا لذة الحلم التي بين يدينا عن وقائع الماضي غير المضمونة.

(حلم) في اليد ولا (واقع) على الشجرة. ما علينا.

غير أن توقعي أن آخذ السيارة كان أمرا مقلقا أيضا.. نعم.. فكيف لي أن أدخلها إلى بلدي؟ وهو أمر يتطلب أن أدفع عنها رسوما جمركية تصل إلى راتب سنة كاملة لملك سابق ورئيس جمهورية وثلاثة رؤساء وزراء راحلين، أو راتب يوم (لمغنية حديثة غير موهوبة).

ثم كيف لي أن أقوم بالصرف عليها؟ شيء من هذا النوع يتطلب معه أشياء شتى.. قصرا فخما.. ورصيدا لا يقل عن عدة عشرات من الملايين لسلة من العملات الدولية الراسخة.. وفتاة جميلة كنجمات السينما تجلس فيها إلى جواري؛ (شِاهدت بالأمس نجمات هوليود دون مساحيق في برنامج خاص، شعرت بالتقزز).

 كان الحلم جميلا ومقلقا في آن واحد، ولحرفوش مثلي كان الأمر أحيانا يبدو مرعبا. فما نعرفه خير مما لا نعرفه وربما الحاضر أجمل مما نتمنى! وعليه، تركت الأمر لحين وقوع الحدث. فلكل حادث حديث.

وكنت أمر على (السوبر ماركت) من حين لآخر لأشاهدها وهي منتصبة لامعة فوق منصتها رائعة كملكة متوجة. كنت أدور حولها بدهشة طفل وبلاهة ساذج وأتحسس الوريقة الباقية من الكوبون في حافظة نقودي بحنان وحرص شديدين.

بعد عدة أشهر، جاء يوم السحب ولم أحضره.، لعلني اشتغلت بالعمل وأشياء أخرى.. لا أدري؟

وإذا باتصال هاتفي، قفزت نحو سماعة الهاتف.. جفلت قطتي البيضاء الصغيرة، صوت ظننت أني أعرفه.. عرفني بنفسه.. نعم هو ذات الموظف يبشرني أنني قد فزت بالجائزة الثانية.. التلفاز ذي 34 بوصة ضخم الجثة.

احتاج الأمر إلى أربعة من العمال الأشداء كي يحملوه إلى شقتي في الطابق الثالث صعدوا به على الدرج خطوة خطوة. لم يتسع له المصعد.

نظروا إلي بحنق شديد بعد أن وصلوا به إلى الأعلى وهم يلهثون. ورغم علمي أنني قد أجزلت لهم العطاء، فقد دهشت حين تخيلت أنني سمعت همهماتهم وهم يسبون ويلعنون!! أرجعت الأمر إلى الحقد الطبقي الذي يشعر به الفقراء السفلة نحونا، نحن ذوي التلفازات الضخمة.. ربما.

وكان مبهرا.. تعودت على كبر الصورة وتتابع الألوان والمشاهد ولم أعد أقترب من جهاز التلفاز كعادتي. (بسبب نظارتي)، ما علينا، كان يملأ المكان بحضوره الفضي وجسده الضخم، بصورته الرائعة وصوته الجهوري.

وكان أول ما شاهدته على شاشته، هو مشهد سقوط بغداد، لعلها مصادفة غير سارة! أن تشهد في عصرنا سقوط أول عاصمة عربية في النصف الاول من القرن 21 على شاشة تلفاز حديث وكبير.

وعشت مع الجهاز أو هو عاش معي الأحداث طوال السنوات الماضية حتى الآن.

ولا أدري ما الذي صار له.. انفعل يوما ما وصار مغيظا مكتوم الأنين، يطلق من جوانبه الدخان والشرر مع صوت غريب تخيلته صوت قنبلة تمهد لنفسها بهدوء.. أن تنفجر.

خشيت أن تحدث المصيبة.. فأغلقته وعدت إلى الصغير ذي ال 20 بوصة الذي كان في الخدمة سابقا.

صرت التصق به كي أراه، بل وأكاد أجلسه على ركبتي كي أتبين صور التفجيرات وألوان الدماء وملامح الأشلاء بوضوح!

ولما كنت قد تعودت على الشاشات الكبيرة، عزمت على شراء جديد يكون أكبر، وحصلت بالأمس على حجم مناسب 29 بوصة.

شاهدته.. أحببته.. دفعت السعر الذي كان معقولا.. انتظرت الشركة أن توصله لي للبيت كعادتهم.. أعطيت موعدا بعد يومين وأبلغني أنهم سيأتون ظهرا.

ذهبت إلى البيت، نظفت المكان بهمة من ينتظر ضيفا عزيزا، اثنان هما الآن جثتان هامدتان فوق بعضهما البعض.. وربما تخيلتهما أشلاء ودماء غير واضحة المعالم، وانتظرت بفرح طفولي رنة الهاتف. لم أجد في نفسي شهية للغداء.

في تمام الثانية عشر ظهرا، دُق الباب، هرولت نحوه وهرولت تحت قدمي قطتي الصغيرة البيضاء، والغريب في الأمر رأيت موظفا قصير القامة ضئيل الحجم.. يرتدي ربطة عنق لا تناسب أيا من ملابسه، وبابتسامة يتسع لها جسده كله، أنبأني أنهم قد جاءوا به.. 

سألته في فرحة عجزت أن أخفيها، طالبا التأكيد: جاءوا به؟

أجاب بابتسامته التي تغيظني: نعم.. وهو الآن أسفل العمارة. أين الفاتورة ؟

بحثت عنها.. أفلتت من يدي وكانت الآن بين أصابعي! ها هي تحت الطاولة.. اللعنة!.. ناولته الفاتورة، تفحصها بدقة، طلب مني التوقيع، وقعت.

نزل هو إلى الأسفل كي يبعث به مع الحمالين، وترك وراءه ابتسامته التي ملأت المكان.

هرولت لأراه من الشرفة، وهرولت معي قطتي الصغيرة البيضاء، اصطدمت بطاولة القهوة الخشبية، وانكفأت فوقها وكانت القطة تحتنا تصرخ بشدة، تحاملت على نفسي ولملمت بعضي بثقة زائفة وخرجت إلى الشرفة، ومعي خرجت القطة الصغيرة التي قفزت لتقف على حافتها، كل الجيران أيضا كانوا في الشرفات المجاورة، لم أرهم يقفون هكذا منذ سنين!.. كانت هناك سيارة بك أب، فتحوا بابا في ظهرها، أخرجوه في صندوقه الضخم. قلبي يدق بعنف، كفاي مبتلتان، حمله اثنان بصعوبة بالغة، ضئيلة كانت السيارة ذات ألوان عدة، اندهشت كيف تحمل في جوفها الصغير هذا الوحش الضخم! وحين تحركت السيارة الجميلة بعيدا عن البناية، دهشت حزنا، لقد ظننت أنهم قد جاءوا بها هدية لي فوق (البيعة) مع التلفاز الكبير.

الآن تتصدر الجدار؛ شاشة جديدة رفيعة القوام، نحيلة القد، حادة الألوان، طاردة تلك الأجهزة المنتفخة البطون في بدروم المنزل القديم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s