اللوحة: الفنان المغربي عبد الله الحريري
اللسان
هو أداة يظهر بها البيان، وشاهد يعبر عن الضمير، وحاكم يَفْصل الخطاب، وناطق يُرد به الجواب، وشافع تُدَرك به الحاجة، وواصف تُعرَف به الأشياء، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز يبرد الأحزان، ومعتذر يرفع الضغينة، ومُلهٍ يونق الأسماع، وزارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل العداوة، وشاكر يستوجب المزيد، ومادح يستحق الألفة، ومؤنس يذهب الوحشة.
العقل
ليس على ظهرها إنسان إلا معجب بعقله، لا يسرُّه أن له بجميع ما له ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمدًا ولذابوا حسدًا، ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء، فهو يرى أنه محسود في كل شيء.
الكلام البليغ
ومتى شاكل – أبقاك الله – اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لَفْقًا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف؛ كان قمنًا بحسن الموقع، وحقيقًا بانتفاع المستمع، وجديرًا أن يمنع صاحبه من تأوُّل الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة.
ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه، متخيَّرًا من جنسه، وكان سليمًا من الفضول، بريئًا من التعقيد، حُبِّبَ إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والْتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالِم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض. ومن أعاره من معرفته نصيبًا، وأفرغ عليه من محبته ذَنوبًا، خبت إليه المعاني، وسلس له نِظَام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم.
كلام النبي
عاب النبي ﷺ التشديق، وجانَب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة، وشُيد بالتأييد، ويُسر بالتوفيق، وألقى الله عليه من المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام والإيجاز. ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلَّت به قدم، بل يبذ الخُطَب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر.
وما سُمع كلام قط أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا من كلامه ﷺ.
جوامع كلمه
يجب للرجل أن يكون سخيًا لا يبلغ التبذير، شجاعًا لا يبلغ الهَوَج، محترسًا لا يبلغ الجبن، ماضيًا لا يبلغ القحة، قوَّالًا لا يبلغ الهذر، صموتًا لا يبلغ العي، حليمًا لا يبلغ الذل، منتصرًا لا يبلغ الظلم، وقورًا لا يبلغ البلادة، ناقدًا لا يبلغ الطيش. ثُمَّ وجدنا رسول الله ﷺ قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي قوله: «خير الأمور أوساطها»، فعلمنا أنه ﷺ قد أُوتي جوامع الكلم، وعُلِّم فصل الخطاب.
سحر البيان
قال بعض الربانيين وأهل المعرفة من البلغاء، ممن يكره التشادق والتعمق، ويبغض الإغراق في القول والتكلف والاجتلاب، ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بحسن ما يسمع: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا متعشِّقًا؛ صار في القلب أحلى، وللصدر أملأ. والمعاني إذا كسبت الألفاظ الكريمة، وأُلبست الأوصاف الرفيعة؛ تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زُيِّنت، وعلى حسب ما زُخرفت، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي.