أنا وأنت – 1

أنا وأنت – 1

مارتن بوبر

ترجمة: أكرم أنطاكي

اللوحة: الفنان الفرنسي سيزان باول

عالم الإنسان مزدوج، وهذا يتَّفق مع موقفه الثنائي.

موقف الإنسان ثنائي، وهذا يتَّفق مع الطبيعة المزدوجة للكلمات الأساسية التي ينطق بها.

ليست الكلمات الأساسية منعزلة، إنما هي كلمات مركَّبة.

الكلمة الأساسية الأولى مزجت بين أنا–أنت.

والكلمة الأساسية الأخرى مزجت بين أنا–هو. مشيرين إلى أنه يمكن، من دون أي تغيير في الكلمة الأولى، استبدال هو بـ هي.

لذا كانت أنا الإنسان مزدوجة.

لذا كانت أنا في الكلمة الأساسية أنا–أنت، مختلفة عن أنا في الكلمة الأساسية أنا–هو.

***

لا تعني الكلمات الأساسية أشياءً، إنما هي توحي بعلاقات.

لا تصف الكلمات الأساسية شيئًا بوسعه أن يكون موجودًا بشكل مستقل عنها. لكن، حين يتم النطق بها، فإنها تقدِّم الوجود.

تنطق الكلمات الأساسية بلسان الكائن.

إن قلت أنت، فإن أنا الممزوجة بها، من خلال أنا–أنت، تقال معها.

إن قلت هو، فإن أنا الممزوجة بها، من خلال أنا–هو، تقال معها.

فقط مع الكائن الكلِّي يتم النطق بالكلمة الأساسية أنا–أنت.

أمَّا الكلمة الأساسية أنا–هو فلا يمكن إطلاقًا النطق بها مع الكائن الكلِّي.

***

لا توجد أنا مستقلة بذاتها، إنما هناك فقط تلك المعبر عنها في الكلمة الأساسية أنا–أنت وفي الكلمة الأساسية أنا-هو.

لذلك حين يقول الإنسان أنا فإنه يشير إلى هذه أو إلى تلك. وأنا التي يشير إليها حاضرة حين ينطق بها.

كذلك حين يقول أنت أو هو، فإن أنا إحدى هتين الكلمتين الأساسيتين متضَمَّن.

فوجود أنا والنطق به واحد. إنه نفس الشيء.

حين يجري النطق بكلمة أساسية، فإن الناطق يدخل الكلمة ويتخذ موقعه فيها.

***

لا تنقضي حياة البشر ضمن إطار أفعال متعدية فقط. فهي لا تتم فقط عن طريق نشاطات تبغي الحصول على شيء.

أنا أدرك شيئًا. أنا ألمس شيئًا. أنا أتخيل شيئًا. أنا أريد شيئًا. أنا أشعر بشيء. أنا أتفكر بشيء. لأن حياة الإنسان ليست فقط كل هذه الأشياء أو ما يشابهها.

فهذه وما يشابهها موجودة في عالم الـهو.

أما عالم الأنت فله قانون آخر.

حين يقول أنت، لا يشير المتكلم إلى شيء محدد. لأنه حين يوجد الشيء، يوجد ما يقابله. فكلُّ هو يحدُّه الآخرون؛ إنه موجود لأنه محدد من قبل الآخرين. لكن حين يقول أنت، ليس هناك شيء. لأن أنت ليست محدودة.

حين يقول أنت، لا يشير المتكلم إلى شيء؛ لأنه فعلاً لا يملك شيئًا. إنما هو يحدد موقعه في قلب علاقة.

***

يقولون إن الإنسان يختبر هذا العالم. فما المقصود بذلك؟

يطوف الإنسان على سطح الأشياء فيجرِّبها، ويستخلص منها معرفة تركيبها: يكتسب منها خبرة. إنه يجرِّب ما تمتلكه الأشياء.

لكن العالم لا يقدَّم إلى الإنسان من خلال التجربة فقط. فالتجربة تقدِّم للإنسان عالمًا مؤلفًا من هو وهي فقط.

أنا أجرِّب شيئًا. – إن إضافة “ظاهر” التجارب إلى “باطنها” لا يغير من الواقع شيئًا. فنحن بهذا نتابع فقط التقسيمات النابعة من رغبة الجنس البشري في اكتشاف سرِّ الموت. وأشياء الظاهر وأشياء الباطن ما هي إلا أشياء وأشياء.

أنا أجرِّب شيئًا – إن إضافة “سرِّي” التجارب إلى “ظاهرها” لا يغير من الواقع شيئًا.

كم واثقة من نفسها تلك الحكمة التي تتخيل، في قلب الأشياء، حجرةً مغلقةً مخصصة للعارفين ولا تفتح إلا بمفتاح. يا أيتها السرَّانية التي لا سرَّ فيها! يا أيتها المعارف المتراكمة! إنها هو، دائمًا هو!

***

لا يملك الإنسان المجرِّب شيئًا في العالم. لأن تجربته تتم بينه و”بين ذاته” وليس بينه وبين العالم.

فالعالم ليس جزءًا من التجربة. إنه يسمح بأن يجرَّب، ولكن لا علاقة له بالتجربة. إنه لا يفعل شيئًا للتجربة، وكذلك لا تفعل التجربة شيئًا له.

***

كتجربة، ينتمي العالم إلى الكلمة الأساسية أنا–هو.

أما فيما يتعلق بالكلمة الأساسية أنا–أنت فإن العالم يتحول إلى علاقة.


مارتن بوبر (1878 – 1965). فيلسوف نمساوي، اشتهر بـ «فلسفة الحوار»، وهي صورة من صور الوجودية، تدور حول التفريق بين علاقة «أنا وأنت» وعلاقة «أنا والشيء». وُلد في فيينا، في أسرة ملتزمة باليهودية، لكنه خرج عن العرف اليهودي ليتابع الدراسات الفلسفية العلمانية. في 1923 كتب مقالته الشهيرة عن الوجود «أنا وأنت». بوبر مشهور بأطروحته عن الوجود الحِواري؛ الذي وصفه في كتاب «أنا وأنت»، لكن عمله مع ذلك تناول مواضيع أخرى عديدة، منها: الوعي الديني، والحداثة، ومفهوم الشر، والتعليم، وغيرها. رُشح لجائزة نوبل في الأدب عدة مرات كما رشح لنفس الجائزة في السلام.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s