قصتان: الرواية الشهيرة – شخبطة على روشتة بيضاء

قصتان: الرواية الشهيرة – شخبطة على روشتة بيضاء

محمود حمدون

اللوحة: الفنان النرويجي إدفارد مونش

ثم طوى جريدته، طوّح بها على كرسي بعيد، وأكمل حديثه: الموضوع أقرب للمياه الجوفية، تلك التي لا تشعر بها إلاّ بعدما تطفو إلى السطح، غير أنها لا تظهر مسالمة، بل مدمّرة، تأتي على القواعد.

مسح الشارع بعينيه، ثم عاد إليّ وقال: أتعرف أن أوّل من أدرك قيمتها هو “نجيب محفوظ” ونعتهم “ب الحرافيش” في روايته الشهيرة التي حملت نفس الاسم!

سألته: وكيف أعرف أن المرجل أوشك أن ينفجر، أن القِدر يكاد يتصدّع؟!

أجابني: ثمة نُذر وبوادر تدل على اقتراب صعود الشلّال، ذلك حينما تتسرب المياه على استحياء من الشقوق، تصبح الأرض رخوة، عندما تسكن الريح، أو تهب محمّلة بغبار يلفح الوجوه، يغشى العيون، ثم بنبرة غاضبة أتم حديثه: عندما تبلغ القلوب الحناجر، تهفو الأنفس للموت بينما يضنّ هذا الأخير بنعيمه عليهم.

شخبطة على روشتة بيضاء

استقبلني على باب ” شقته”، كان يتكئ على عصاه، بيد مرتعشة ردّ السلام، ثم دعاني للدخول. كنت قد سمعت بمرضه، فعزمت أن أعوده. فلما قعدت بين يديه، قلت: لا بأس عليك، على قدر أهل العزم يا مولانا، فشكرني باقتضاب، قال: لعقود كثيرة خلت من عمري ماتهيّبت المواجهة، كما لم أركن أبدًا لحياة الدعة، كنت أكره وقت الفراغ، أفرُّ من الأجازة فرار السليم.. كما تقول العبارة الشهيرة، حتى أصبت بوعكة، ليست واحدة، بل وعكات إن شئت الدقة، فقد تكاثرت على بعضها كالنصال ببيت الشعر المعروف.

توقف عن حديثه، سألني: تشرب قهوة؟

فأجبته: الوقت تأخر، تناولت منها الكثير بيومي.

فهَشّ الرجل لردّي، أكمل: أجبرتني العلّة الأخيرة أن أتوارى قليلًا، أحصل على هُدنة إجبارية. لكنّي لم أر خلالها غير بعض الأطباء منهم المبتسم، والمتجهم، المنشغل بما أمامه عَدَاي، أو المهتم بفحصي كما لو كنت من أهله، غير أنه لم يجمع بينهم إلاّ أجر مرتفع، وشخبطات على “روشتة” بيضاء.

 كل منهم يُقسم أن الموضوع بسيط، هيّن، ثم يصحبني برفق للباب وهو يهمس في أذني: الله الشافي، كأنما يُخبرني بحقيقة أجهلها، أو يُسرّ إليّ بمفاجأة ستُلجم لساني، فأضطر تحت وطء تجاوز الموقف بأن أهزّ رأسي مؤمّنًا على كلامه، ورجاحة عقله.

فلمّا عُدت لعملي بالأمس بعدما انقضت إجازتي، وجدتني بأرض غريبة، فَلَاة تنقطع بالسائر فيها السُبل، بدا ليّ أنني لم أعرف المارة من حولي، أجزم أنّي ما رأيتهم من قبل، غُصة استقرت بحلقي، اعتصار بالصدر، فأجفلت من يوم كرهت لقاءه.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s