قصي الشيخ عسكر
اللوحة: الفنان الإسباني فرانثيسكو غويا
لو حدث ذلك قبل ساعة من الآن لكان كل شيء على مايرام، فقبل ساعة فقط تجسد الخبر المؤسف كأيّ مشهد مسرحيّ حزين، لا شيء غير الأنقاض والملجأ الوحيد الذي ضمنا نحن الستة، أنا وهو والحاج جابر، ومعنا ثلاثة شبان جمعتنا بهم المحنة. أما هو فكان يئن.. والدماء من حوله وحولنا تصبغ العالم المحيط بنا، الدماء كالأسف العميق تماما، يا كريم اليوم دورك، أمس ذهبت أنا لأجلب الطعام، وغدا سيذهب نزار، وكان الحاج جابر هو المسؤول عن فهرسة الجدول والواجبات، ولم يكن هناك أي أمر ذي بال غير الخروج يوميا لجلب المؤنة، ففي الخارج والداخل يتوحد المشهدان المسرحيان، قصف مدفعي، شظايا تتناثر، الدماء تغطي الأنقاض والأرصفة، وبين الحياة والموت تتلاعب الفئران، والقطط الضالة. ثمت هناك أيضا الكلاب السائبة التي تبحث عن جيفة وسط الأنقاض والخنادق. قيل عن يوم أمس، إن ابن عرس أكل أطراف طفل تحت الأنقاض، فلاشك أن مهمة الذي يخرج ليجلب المؤونة صحفيّةٌ أيضا، مع قدومه – إذا رجع سالما – وهو يحمل أرغفة الخبز، يجلب أخبار الملاجئ الأخرى، لابد أن مسافة كيلومتر تحمل الشيء الكثير من بينها وفاة العم فلان، ومصرع الشاب فلان، وآخر أصابته شظيّة في معدته، لكن كريما كان يحمل أرغفة الخبز، ويحاول أن يتحامل ليصل إلينا بأسرع وقت. سألناه عما به، فأجاب بابتسامة شاحبة: إنها شظيّة، عند قدومي إليكم اشتد القصف المدفع، فأصابتني في ساقي.
ومع ذلك تجاوز لحظات الألم، فحافظ على الطعام، فوصل إلينا كاملا. ظننا أن العم جابر ذلك الرجل الطيب الذي يحفظ مئات القصص يستطيع أن ينسيه همّه، فقد اعتدنا أن نتحلق حوله جميعنا، نستمع إلى أقاصيصه الحلوة، نتابع أخبار زمان، إنها وسيلة رائعة تنسينا البرد والرطوبة، والقصف المدفعيّ في الخارج.
سأقص عليك قصة تجعلك تنسى الألم هذه الليلة. قال العم جابر عبارته، ونبش الجمرات تحت وعاء الشاي ثم واصل: لم تسمعوا عن الغول التي تزوجت إنسانا. هذه الليلة ستسمعون تلك الحكاية…
حملت كأس الشاي، وقصدت إلى حيث يرقد كريم. كان شاحب الوجه، أصفر اللون، ألقيت فوقه بعض البطانيات، وحاولت أن أمسد رجله. كان يصر على أسنانه من الألم، أنا أعرفه شابا عنيدا يحاول أن يتجاوز كثيرا من الآلام
والمآسي ليثبت قوته. حكى لي كيف ربح ذات يوم رهانا، وهو ما يزال طالبا في الصف الأول الابتدائي، كان هناك طالب في السنة السابعة قوي العضلات يتحدى الطلاب، يراهن على أن يعصر أيديهم حتى يصرخوا، سقط في الرهان طلاب السنة السادسة والخامسة، الأمر الذي دفع كريم، على الرغم من صغر سنه، إلى التحدي. العد إلى الخمسين، بسط كريم يده، فتناولها الطالب بكفه الغليظة.. بدأ يضغط ويضغط، أما كريم فراح يكزّ على أسنانه من الألم، انقضى العد ولم يصرخ. الحكاية ليست أغرب من حكايات العم جابر، فها هو كريم يعض على أسنانه ليغالب الصراخ، الرجال لا يبكون، ولا يصرخون، العم جابر يؤكد المقولة لكن: أين الرجال الآن؟ لو خليت قلبت، لشد ما أدهشني أن كريم استمر في عناده، انقضت أربعة أيام، وهو مستلق في مكانه لا يتحرك، يقلب رأسه يمينا وشمالا، ويمتنع عن الصراخ. مع الايام بدأت رجله تتضخم وتكبر، حين أسأله كيف اصبحت يجيب: بخير، وفي اليوم الذي حل دوري حاولت الخروج. كان القصف شديدا والقنص يتكاثف من جميع الجهات. مسافة الكيلومتر أصبحت دهرا بكامله: كأنها انقلبت تحت أقدامي إلى كوكب يلفه العنف. الموت في هذا الخندق وعلى تلك الساحة، يقال حدثت مجزرة رهيبة، وأنا أحمل الخبز من مركز المؤونة، وأتجه ثانية إلى الملجأ، تارة أزحف، وأخرى أدب، وثالثة أهرول. أخبرني بعض من التقيتهم أن طبيب الوحدة المدنية مر مصادفة بالموضع القريب من مكاننا، فكرت بالذهاب إلى هناك، توقفت عدة مرات، ودلفت في حفرة كالضب. كنت أتحاشى القصف والقنص إلى أن وصلت. قيل إن الطبيب، كان هنا، ثم رحل خرجتيائسا إلى ملجئنا، حاولت أن أقطع المسافة مهرولا، فقد كنت أشعر بالتعب والارهاق. حين وصلت، وجدت الحاج جابر متجهم الوجه. وعلى وجوه الآخرين يخيم صمت حزين. قال العم جابر إن طبيب الوحدة المدنية مر من هنا، وفحص كريما، فأكد أن” الغرغرينا” انتشرت في ساقه ولا علاج له إلا البتر.
كان الخبر مفاجأة لي، ربما أكون أقرب انسان إلى كريم، أفهم نفسيته جيدا، وأدرك حبه للحياة تماما، والعناد خصلتان قد لا تجتمعان في احد الى درجة الكمال مثلما هما فيه، ولامجال امامنا الا أن نعمل هنا، المشفى
بعيد عن الملجأ، والقصف مستمر لا ينقطع، وكريم على شفا التسمم ان لم تقطع رجله … جلست عند رأسه داعبت جبينه بأناملي وسألته: كريم ماذا تقول؟. تطلع إليّ بعينين ذابلتين وشفتين تنمان عن ابتسامة مرة، وأجاب: اقطعوا رجلي. الوقت ليس من صالحنا …
كان العم جابر، يعلق، كأن جملة كريم الأخيرة اكدت له معنى جديدا للحياة، وأضاف بعد برهة صمت: لندعه يعيش مقابل أن نقطع رجله قبل أن يدركنا الوقت.
وافقنا جميعا على بدء العملية.. أشعل أحد الشابين نارا لكي نعقم على لهيبها منشار نجارة عاديا، ثم وضعنا فوقها وعاءً ملأناه بالزيت، كنت أقلب المنشار على النار، حين امسك اثنان يدي كريم، وربض ثالث على صدره يساعد
العم جابر وشاب آخر انهمك في القبض بإحكام على الرجلين خمسة اشخاص يكبلون يدي كريم ورجليه، وأنا أمرر المنشار على رجله من فوق الركبة بالضبط.. أروح انشر، وأنشر حتى أدركني التعب التقطت أنفاسي لحظات، ثم عاودت النشر!
كان لمرور المنشار بالعظم صوت تصطك له أسناني. أدرك جيدا كم هو مؤلم فعلي، وكريم يعاند الألم، ولا يتأوه كان يضغط بأسنانه على قطعة قماش نستعملها في القبض على وعاء الشاي الساخن كي لا تحترق اصابعنا، ومع مرور اللحظات بدأت مقاومة كريم تضعف تدريجيا وفي اللحظة الحاسمة – آخر لحظة – من النشر استجمعت قوتي فبترت الساق عن بقية الجسد.
لم يصرخ كريم شأنه كل مرة، غير أنه كان في شبه غيبوبة، حملت وعاء الزيت المغلي، ووضعته قربه، أسندناه وهو متخشب الجسد ثم غمسنا فخذه النازفة في وعاء الزيت.. في تلك اللحظة أنّ كريم أنة طويلة.. تصبب العرق من جبينه غزيرا، يكاد يفوق بغزارته الدماء التي نزفت منه، ثم دخل ثانية في غيبوبة طويلة.
كنا نتحلق حوله، وعلى شفاهنا ابتسامة مرة، لابد أن نقبل بالأمر الواقع، فمن الافضل أن يعيش كريم برجل واحدة على أن يخسر حياته…
بعد ساعة من العملية اختلفت الاحوال.. فجأة عم هدوء غريب الأجواء كلها، هدوء يكاد يكون غريب الملامح لا نعرفه اطلاقا سكتت أصوات المدافع وتلاشى القنص تماما، ستة أشهر مرت لم يتوقف خلالها القتال العنيف، من يصدق الآن أن كل شيء هادئ وساكن، وعلى ضوء السكون والهدوء بدأت الحياة تدب في الشوارع ليخرج الناس من الملاجئ كالفئران الضالة، أدركت أني لن أبحث عن الخبز تحت القصف بعد الآن، فنحن نسمع خلال أجواء الصمت، عن مباحثات جديدة بين الأطراف المتحاربة وعلى شفاه الآخرين الذين قابلتهم دعاء أن يستمر الهدوء، وتطول الهدنة تلك التي لو حلت قبل ساعة من هذه اللحظة ساعة واحدة فقط ، لكان من المحتمل أن ينجو كريم من موت محقق…
أما في هذه اللحظة، لحظة الهدوء العجيبة، فلم نكن بحاجة إلى حمله إلى المشفى كنا أنا والعم جابر والشباب الآخرون نرافق جثته إلى المقبرة القريبة.

قصي الشيخ عسكر روائي وشاعر عراقي من البصرة. مقيم في المملكة المتحدة. حاز على الماجستير بالأدب العربي من جامعة دمشق. نشرت له مجلة العربي الكويتية مجموعة من القصص، واختارت إحداها لتصدر في «كتاب العربي» ضمن أنتولوجيا القصة العربية. أهم أعماله: «المكتب»، «نوتنغهام في علبة ليشمانيا»، «المقصف الملكي»، «نهر جاسم»، (وردت في قائمة أفضل 100رواية عربية)، الرباط، وغيرها.