اللوحة: الفنان الروسي قسطنطين كوروفين
هربت من مطر غزير هطل فجأة أثناء عودتي، فاحتميت بجدران البيوت، تحسست الأحجار الناتئة، جعلتها كدرجات سُلّم أمسك بتلابيبها كي لا تنزلق قدماي في الوحل، بالكاد وصلت لبيتي، أسرعت لغرفتي، خائر القوى إثر مشوار بعيد قدمتُ منه، ألقيت بجسدي على سريري، أفكر فيما مضى من يومي، أحداثه الغريبة، حوادثه التي تعاقبت وراء بعضها. فأمسكت بقلمي وكتبت بعض شذرات وردت ببالي، لكني تركت ما بيدي حينما تسلّلت لأنفي رائحة حريق يأتي من قريب، أعقبتها تباشير عاصفة كبيرة تزمجر، تطيح بما يقابلها، فتدثّرت بملابسي، وضعت أصابعي في أذني، سألتها: ما بكِ؟
فقالت ولهيب عينيها لا يبقيا على شيء حيّ:لن أتعلم أبدًا، ذات الصنف، نفس الذائقة، يمكنني أن أوسّع دائرتي ، أن تصبح دوائرًا كثيرة، يتداخل بعضها ببعض.. ثم خرجت بعدما صفعت الباب خلفها.
ناديتها من الشرفة، الليل يوشك أن ينتصف: مجنونة أنتِ، لكن، لطالما عشقت جنوك هذا، يبقيني على قيد الحياة، يردّني إلى جادة العقل.
فأتاني صوتها من آخر الشارع، أزعم أنها كانت حريصة أن يسمعها الجيران: “وحياة أمك ما هاتشوف وشي تاني”.
حين يغالبك النُعاس
“الوَنَسْ”، ليس مجرد زحام تأتنس به يا عزيزي، لكنه أرقى وأعلى من ذلك…
التقيته غير مرّة. على فترات متباعدة، في كل منها كان يلقي عليّ موعظة أو حكمة ثم ينصرف إلى حال سبيله، لا ينتظر ردًّا منيّ أو تقديرًا لكلماته.
غير أنه في المرة الأخيرة حينما قابلته بمنطقة”دحدورة هدى”، جاهر على الملأ بمأثورته” الوَنَسْ”، ثم وقف ينتظر ردّة فعلي،فنظرت في عينيه و قلت: الزحام يحيط بي من كل صوب، حتى أنّي لا أجد وقتًا أختلي فيه بنفسي، ولا موطئ لقدمي.
رَبَتْ على كتفي، همس:على رغم الضجيج من حولك، لكنك لن تأتنس إلّا بمن يزول بين يديه خوفك، ستعرفه حين يغالبك النعاس فلا نوم بغير أمن، ستجد ذلك حين يرتفع في حضرته رصيد أمانك.
قلت: تُزيد من حيرتي كلما قابلتك! ثم سألته مباشرة وأنا أحدّق بعينيه: أهو رجل أم امرأة؟
فتجّهم بعد انبساط، وانصرف وخلفه تناثرت حروف، أعدت صياغتها فوجدتها: غبيّ من يسمع و يبصر ولا يؤمن.