اللوحة: الفنان الأردني عصام طنطاوي
الحي هادئٌ اليوم، بضع سيَّاراتٍ تعبُر على مهلٍ أمام حاجز الجيش الذي يتوسَّط الطَّريق في النَّاحية المواجهة لشرفة العيادة.
كان ذلك متوقَّعا ظهر يوم الأربعاء، معظم النَّاس في أعمالهم والتَّلاميذ في مدارسهم، كانوا على بعد ساعةٍ من منتصف الأسبوع، تلك اللَّحظة التي يستفيق فيها البشر من راحة العطلة ويستعدون للدخول في عطلةٍ جديدةٍ.
في الجهة المقابلة من الطَّريق، كانت صاحبة الدُّكان تقتنص دقائقَ من شعاع الشَّمس، على كرسيِّها الخشبيِّ، قرب صناديق الماء المُعَدَّة للبيع عند مفترق الطَّريق الذّي يُوصل صعودًا إلى ضيعته الرَّابضة على كتف التَّلة المواجهة المكسوَّة حُقولها وبأشجار الزَّيتون العتيق، الذي شاهد يومًا مرور المسيح في لحظةٍ عابرةٍ من ملء الزَّمان.
استطاع الوصول باكرًا إلى العيادة هذا اليوم، لقلَّة الازدحام على الأوتوستراد الذي يصل صيدا ببيروت، فكان لديه بضعة دقائق ليستعدَّ لمفاجآت هذا النّهار، ورغم أن عيادته اليوم خارج العاصمة، في ضيعةٍ بعيدةٍ عن كلِّ إثارة المستشفى الجامعيِّ في بيروت، مع تعقيدات المرضى التي يقوم زملاؤه بتحويلهم إلى عيادته للاستشارة، كان يعلم أن مرضى العيادة في الجنوب سيحملون ولا شك تحدِّياتٍ تشخيصيَّةً تجعله ينسى معاناة سنوات الدِّراسة الأربعة عشر في لحظة يعثر فيها على تشخيصٍ نادرٍ من النّظرة الأولى. كان يعلم أن كلَّ يومٍ يحمل له كنزًا مخفيًّا في حقلٍ مهجورٍ ينتظر أن يُكْشَفَ عنه النِّقاب.
أطلَّ والد المريض برأسِهِ من باب العيادة مستفسرًا عمَّا إذا كان عثر على العنوان الصَّحيح.
- “مْبَكّرين”، بادره بالقول وهو يدعوه للدُّخول
- “والله يا دكتور، قاصدين الله وقاصدينك”
كان ذلك التَّعبير العشوائيّ الذي دأب النّاس على تكراره عندما يطلبون من الطَّبيب أن يجترح معجزةً، قبل أن يعلم ما هو المرض، أو حتّى قبل أن يعاين المريض. وذلك لم يكن بمستغربٍ في منطقةٍ يُبدِع فيها مار شربل بكشف عجز العلم عبر تخطّيه حدود المنطق.
- “كيفك يا بطل؟” قالها وهو يمدّ يده ليصافح الطِّفل الذي يتبع والده ماشيًا على رؤوس أصابعه.
لم يردّ الطّفل سلامه بِحَرَكَةِ يدٍ مُصافِحَةٍ ولا حتّى بنظرة استئناس. - “بعدو ما بْيِفْهَمْ وما بْيِحْكي يا دكتور” أردف الوالد وهو يتبعه إلى المكتب المجاور وأثر اليأس بادٍ على وجهه، “ما تَركْنا مستشفى ما رِحْنا عليه يا دكتور، وما حدا عِرِفْلو لإبني”. بهذا استهلّ الوالد حديثه مستبقًا أسئلة الطبيب فهو كان اعتاد على هذه المواجهة لكثرة تكرارها، فهو كان قد زار ما لا يقلّ عن سبعة أطبّاء اختصاصيّين في العاصمة إن في عياداتهم أو في المستشفيات الجامعيّة.
كل الزملاء كانوا قد قاموا بواجبهم على أكمل وجه وقاموا بإجراء الفحوصات اللَّازمة ووصلوا إلى الخلاصة التي تعثَّر عندها المريض: “يجب إجراء فحص الجينات”، وهذا ما يترجمه ذوو المريض مباشرةً بتعبير “ما حدا كان يَعْرِفْلُه”، فالتشخيص الذي لا يفهمه المريض هو بكلّ بساطة تشخيصٌ غير موجود.
فحوصات المريض الرّوتينية لم تكن قد أظهرت سبب التأخر عنده، فهو منذ سنته الأولى أظهر تأخُّرًا في كلِّ اكتساباته الفكريَّة والعضليَّة، إن في خطواته الأولى أو كلماته الأولى.
تابع قلب أوراق الملفِّ الغليظ الذي وضعه الوالد بين يديه. كلُّ تلك كانت رسومًا هيروغليفيَّة بالنِّسبة له طالما أنه لم يَقُمْ بإجراء الفحص السَّريريِّ للطِّفل أوَّلًا.
أغلق الملفَّ وتوجَّه نحو الطِّفل وأخذ بتفحُّصه بتمعُّنٍ.
كان الطِّفل فعلًا عاجزًا عن تركيز نظره على محيطه، كانت نظراته تائهةً في فراغات الفضاء الثُّلاثي الأبعاد، مع بعضٍ من حركاتٍ تكراريَّة رتيبةٍ براحتي يديه إن دورانًا أو تلويحًا كجناحيّ عصفور. لم يكن مستبعدًا أن يكون الأهل قد سمعوا تعبير التَّوحّد سابقًا.
قام بتحسّس عضلات يدي الطِّفل وساقيه، كانت غريبة الملمس ضعيفة الكثافة طريّة مِطواعةً لحركة أصابعه. كان عليه أن يتعمّق أكثر ليجد الكنز الدَّفين في ذلك الحقل.
- “شو عم ياخد دوا؟” سأل الوالِدَ وهو يتصفّح ثانية أوراق الملفِّ الضَّخم
- ولا دوا يا دكتور، بس جلسات العلاج
- وهل قمتم بإجراء فحص الجينات؟
- بتعرف قدّيش بيكلّف يا دكتور، ما إلي قُدْرة
كان الوالد من الذين لجأوا من بلد مجاورٍ ولم تعرف خطاهم طريق العودة رغم انجلاء الغيوم، فلبث وعائلته بأولاده الخمسة حيث هو، يقتات من إعانة جمعيَّةٍ أمميَّةٍ بانتظار أن تتلقّفهم سفارةٌ أوروبيَّةٌ، طبعًا لم يَكُنْ فحص الجينات الباهظ أولويَّة بالنِّسبة إليه.
- وأين صورة الرّنين المغناطيسيِّ للرّأس؟
- تقريرها في الملفّ يا دكتور
- أعلم، ولكن أين القرص المدمج؟ كرّر مشدّدًا، فهو كان قرأ نصَّ التّقرير الذي لم يذكر وجود أيَّة شائبةٍ، ولكنَّ وسواسه القهريّ لم يكن ليستكين قبل أن يرى الصُّور على ال CD
- “ما بعرف إذا معي” أكمل الوالد وهو يغوص في حقيبة جلديَّة زرقاء حمل فيها معه ملف الطِّفل وبعضًا من حاجياته إضافةً إلى عديد من الأوراق الثُّبوتيَّة التي ترافق ترحاله على ما يبدو. “تفضّل يا دكتور، بعدو مِشْ مفتوح”
لم يكن الوالد يمازحه، فالصِّمغ السَّائل كان يُغلِق المغلَّف المُربَّع بإحكامٍ منذ يوم الطَّبع.
كانت الصُّورة سليمةً كما سبق وقال الوالد، ولكن هناك صورةً إضافيَّة لم تكن مذكورةً في التَّقرير الذّي لمْ يلْحظ نتيجة التَّحليل الطَّيفيّ لمحتويات الدِّماغ، بل لم يلْحظ حتَّى إجراءها.
كان يُفترض بذاك المنحنى أن يتكوَّن من ثلاثة قِممٍ، ولكنَّ المنحنى على هذه الصُّورة لم يتكوَّن سوى من إثنتين.
نقص الكرياتين يُعدُّ من أندر الأمراض الاستقلابيّة والتي قد تستجيب للعلاج الذّي قد يكون ببساطةٍ عبارةً عن أحد الفيتامينات التي يعاقرها مهووسو النّوادي الرياضيّة، وفي ذلك المرض تكون صورة الرَّنين المغناطيسيّ العامَّة سليمة ولا يَظهر الخلل إلا في تحليل الطَّيف، حيث يكون للمنحنى قمَّتان عوض الثّلاثة ويكون ذلك بمثابة تشخيصٍ أكيد.
نظر إلى التّقرير ثانية ثمَّ إلى والد المريض وإلى المنحى الذي لا يبان عليه رسم منحنى الكرياتين، فتلك المادّة الأساسيَّة التي تكوِّن خلايا الدماغ لم تكن موجودة هناك، كان التّشخيص واضحًا على شاشة الحاسوب أمامه.
- “قلت لي أنك لم تقُم بالفحوصات المُكلفة ولكنَّ الصُّورة هنا دقيقة ومتخصصة وكافية للتّشخيص”
- “أولاد الحلال كتار يا دكتور، واحد آدمي تبرّع لي بها
“لعلَّ هناك خطأ في طباعة ال CD“، تلك كانت الخاطرة الأولى التي تبادرت إلى ذهنه وهو يحاول تفسير التناقض بين القرص المدمج والتقرير.
حمل هاتفه وطلب رقم مختبر الأشعَّة.
- “هي صورةٌ من حوالي سنة يا دكتور”، قال لطبيب الأشعَّة وهو يعطيه اسم المريض وتاريخ إجراء الصُّورة
- “طبعًا أتذكَّرُه” سارع طبيب الأشعَّة بالقول، “مريضٌ مسكينٌ أتانا مُعدَمًا ماديا وأجرينا له الصُّورة بالمجَّان وكنَّا قد اشترينا جهاز ال spectroscopy للتَّوّ فجربّناه عليه” أَتْبَع ضاحكًا
- وما رأيك بنتيجة ال spectroscopy؟
- صراحةً لم نَنْظر إليها، فهي لم تكن مطلوبةً ولم نذكر نتيجتها في التّقرير
- يا ليت تلقي عليها نظرةً يا دكتور، فأنا أودّ أن نتناقش بنتيجتها
- طبعًا، أعطِني لحظةً لأفتح الملف
- “خذ وقتَك” أجابه وهو يقرّب هاتفه من أذنه محاولًا تخيّل شكل زميله وهو يعثر بدوره على الكنز.