اللوحة: الفنان المصري عادل الليثي
فتاتان صغيرتان, أظن أكبرهما لا يزيد عمرها عن ثمانية عشر عامًا, رأيتهما تقفان بمفترق طرق يصل بين بيتي والطريق العام السريع, حين مررت من جانبهما سمعت الكبرى تهمس كأنها تقصدني: “عمو “, نرغب في سيارة ” تاكسي” فهل تساعدنا؟
فأجبتها بأن أشرت لأقرب سيارة أجرة تمرّ أمامنا في تلك اللحظة, سألت الصبية: ما وجهتك؟ غير أنها لم تُجب إلاّ بأن لفّت ذراعها الأيسر حول خصري وضغطت بشدة كأنما تحتضنني!
أفزعني الموقف, أو ربما شعرت باحراج من غرابته بخاصة ونحن بشارع عام والجميع يعرفونني هنا, فلمّا ذهبت السكرة, وجدتني من جديد في غرفة نومي, أنام على جانبي الأيمن على حافة السرير, كما اعتدت دومًا, والفتاة الكبرى, تواجهني, تضع ذراعها حولي تضمني إليها في حضن أبدي وأنفاسها الحارة تلفح وجهي.
كانت تنظر إليّ غير أن عينيها فارغتان من أي معنى, حاولت التملّص من بين ذراعيها, حوقلت واستعذت كثيرًا, غير أنها أَبَتْ أن تُفلتني, كما رفضت أن تخفّف من قبضتها .
بأسفل المنزل, يقف” تاكسي” أبيض, يهدر محرّكه بشدة, أبوابه الأربعة مفتوحة على مصارعها, أصابت سائقها سِنًة من نوم .
يهوذا
غابت ضحكته, لم يكن ما رأيته وجومًا عاديًا مما يعتري الناس حين تضطرب حياتهم فجأة, بل أمرًا آخر, أدركت أنه يمر بأزمة نفسية شديدة, لطالما مررت بمثلها, أعرفها جيدًا من علاماتها و ذلك حين ينكسر الخاطر, تغيم الرؤية.
حين يرتفع الشك بداخلي إلى مرتبة اليقين, أومن أن كل شيء كما هو, لا تغيير سيحدث, حين يتوارى الأمل تحت وطأة الخيبة.. كل ذلك رأيته حين التقت عينانا مساء اليوم, خجلت أن أرى تلك النظرة بعين هذا الشيخ الذي عاش حياته يؤمن أن الغد أفضل, أن اليأس سلاح العجزة والثكالى.
هذه الليلة, تضافر كل ذلك, فصنع جديلة كبيرة, أحكمت عُقدتها حول رقبته, حين مددت له يدي بالسلام, وجدتها باردة, فقدت كثيرًا من بهاء الطفولة, أضحت يد شيخ ترتعش.
سألني كأنما يرغب في الحكي: أتعرف ما حدث ليّ؟
لم ينتظر ردًا, إذ انطلق يسرد تفاصيل كثيرة, تنبأتُ ببعضها قبل مدة, عند استدعاء بليل, تهديد تلقّاه, عن تلاميذ لطالما أقاموا طويلًا على مائدة علمه, لكنهم خانوه, كما فعل “يهوذا”, كان يتكلم, ثم يتوقف هنيهة وينظر إليّ, ثم يستأنف حديثه, لم أطق أن أنظر بعينيه, نظرت بكل اتجاه, ألتمس العون من نسمة باردة كي تئد دمعة تفلّتت غصب عني, حين فاض الكيل قاطعته وقلت: يحدث هذا حين يضيق صاحب البيت بضيوفه, فللضيف حقوق لا ينبغي أن يتجاوزها, إن التزم آمن, إن تمادى لا يلومن إلاّ نفسه.