التشكيلي منصور الهبر.. وجوه بارزة في زحام المشاعر

التشكيلي منصور الهبر.. وجوه بارزة في زحام المشاعر

خالد جهاد

زحام.. هو ذلك الشعور الذي يباغتنا فور استيقاظنا، هتافات الباعة، النشاز المروري، نشرات الأخبار وأسئلةٌ مكررة نعرف إجابتها سلفاً..

كلمات، أنغام وألوان تقف جميعها في المنتصف بين الحضور والغياب، تنعكس على أرواحنا كانعكاس صورتنا على سطح البحيرة بصفاءٍ وهشاشة، فتبدو كلٌ منها لوحةً مستقلةً بذاتها، شكلاً مغايراً من أشكال الفن الذي يرسمه التاريخ الآن على ملامحنا متأثراً بشعورنا تجاه ما تزدحم به أيامنا وذاكرتنا لتترجم واقعاً مشتبكاً يلتقط مفرداته الفنان اللبناني منصور الهبر في الكثير من لوحاته التي تميز أسلوبه..

فقد تكون الشكوى من الزحام أمراً شائعاً لكن توظيفه في رسائل فنية هو أمرٌ يستحق التوقف عنده، فتتزاحم الوجوه، تتباين انفعالاتها وتختلف ردات فعلها بين الكثير من لوحات فناننا وحتى ضمن اللوحة الواحدة لتقدم مجموعة ً من الحالات التي يمر بها الإنسان اليوم بشكلٍ عام واللبناني بشكلٍ خاص تبعاً للأوضاع الاستثنائية التي يعاني منها لبنان حالياً.. 

فالغضب ليست الكلمة الصحيحة التي يمكنها أن تعبر عن وجوه منصور الهبر، بل مجموعة كبيرة من الأحاسيس المتراكمة والمتناقضة والمتلاطمة كأمواج البحر داخل كل شخصيةٍ تعيش يأسها، قلقها، احباطها، شرودها، ترقبها، ثورتها وانطفائها، صراعها بين أحلامها والواقع الكابوسي الذي تعيشه، تشتتها بين ذكرياتها وأحبتها، شوقها للراحلين والمهاجرين والجالسين بقربها لكن ستاراً من الغربة يحول بينها وبينهم دون أسباب، حالةٌ من التوهج الظاهري والنزيف الداخلي في عيونٍ تبتسم رغم تعبها في رحلة بحثها عن السعادة والحياة.. الحياة المتمثلة في الألوان والزحام والصخب الذي يحمل الكثير من الخواء والصقيع والوحدة والخوف.. والذي ينتهي في كثير من الأحيان بحالةٍ من الانسحاب إلى الأعماق تماماً كسلحفاةٍ تختبأ في صدفتها، بحثاً عن أمانها في عزلتها.. تلك العزلة التي تتمنى انتهائها بقلبٍ يعثر عليها لينتشلها من ذلك (الزحام) وتكافئه بهروبٍ مجنونٍ تحت جنح الظلام في مدينةٍ يأخذ فيها كل حدث شكلاً من الفكاهة الممزوجة بالفن والوجع الموزون الذي يؤلمك دون أن يميتك ويضحكك دون أن يجعلك سعيداً.. فهي اللغز الذي كلما اقتربت من حله وجدت أنك تبدأ من جديد..

وهكذا هي وجوه منصور الهبر لبنانيةٌ بامتياز، مشاغبة، متجددة، غير محايدة، وتحمل في نظراتها أكثر من معنى، تبحث بإصرار عن الحب عن الحياة عن الإنسان وتحمل وطنها بأشجاره وقراه وأنهاره وطرقاته وبيوته في مخيلتها عل أحلامها تفلت من مقصلة الواقع لتتغلب عليه حتى في دعابةٍ تخرجها من التوتر الذي يبدو واضحاً على ملامحها وتبرزه الخطوط والألوان بتدرجاتها وكثافتها وتنقلها بين الشخصيات لتعطي كلاً منها دوراً وفكرةً وايقاعاً يتصاعد في بعض اللوحات ويخفت في أخرى لصالح وجهٍ مختلف يطل من بين زحام وجوه منصور الهبر حاملاً معه تعبيراً يختلف عن ما سبقه..

فللوحاته لغة جذابة وأليفة لكنها غير نمطية، تحاول أن تحفز المتفرج على التفكير في الشكل الذي آلت إليه العلاقات الإنسانية والعاطفية على حدٍ سواء وسط تصحرٍ عاطفي وانكفاءٍ على الذات وبحثٍ عن حياةٍ افتراضية بكل جوانبها عبر وسائل التواصل الحديثة التي تجعل الكثيرين يبحثون عن حبيبهم المستلقي بجوارهم في حالةٍ من الانفصال شبه الكلي عن النفس والمحيط العائلي والمجتمع ككل، ليتم تخدير وعيه في حالةٍ من الإلهاء المتعمد والتي يقطف ثمارها الفاسدون الذين رسمهم منصور الهبر مراراً بشكل ٍ مباشر وصريح دون مواربة وبحضور طقوسهم ومفرداتهم ولغتهم، فتذكرنا هذه الأعمال بالسينما الصامتة القادرة على إيصال معانيها بسلاسة وبعيداً عن التنظير..

ولا نستطيع عند تحليل وجوه منصور الهبر والتي يمكننا أن نرى تعبيراتها بحرية ترتسم على ملامح الناس في الطرقات إلا أن تلفتنا تلك النظرات الباحثة عن الأمان وإن كانت تخفي خوفها وقلقها خلف قناعٍ من الصلابة والقوة المصطنعة لتستمر الحياة، وبلا شك فإن تنوع الوجوه والشخصيات التي تزخر بها لوحات الفنان اللبناني منصور الهبر تؤكد قدرته على نقل الحالة اللبنانية وتجسيدها بذكاء، عدا عن تميزه في الوصول إلى الوجوه وما ورائها جاعلاً منها مادةً خصبة تضفي أكثر من بعد على لوحاته التي تتعدى كونها مجرد أعمالٍ فنية تلفت الأنظار لتصبح شاهدةً على الحدث ومشاركةً في توثيقه وإيصال مضمونه بسلاسةٍ وعمق..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s