هناء غمراوي
اللوحة: الفنان الروسي فيكتور تزجانوف
كثير من الأمور اختلفت عليّ بعد إقامتي في هذه المدينة؛ اللغة، العادات، التقاليد، نظام السير، وطبعاً المناخ… أما تعاقب الفصول، وكيفية استقبالها والاحتفاء بها فكان لها حيز خاص من يومياتي، وبخاصة فصل الخريف. وقد كنت قد فصلت ذلك في مقالة سابقة، وتحدثت عن الفرق الكبير بين احتفاء سكان هذه المدينة، عنيت نيويورك وما يحيط بها من ولايات شمالية بقدوم الخريف ومناطق الشرق الاوسط وحوض البحر المتوسط الذين ما زالوا يعتبرون الربيع سيد الفصول.
ظاهرة أخرى لفتت نظري أيضا هنا! وهي كثرة الأعياد. بغض النظر عن الأعياد الرسمية طبعا، كعيديّ الشكر والاستقلال وعيد كولومبس، والأعياد الدينية، كعيدي الميلاد والفصح، ورأس السنة الميلادية. الأعياد التي أتحدث عنها تكاد تكون أسبوعية. وهي ليست وطنية ولا جماعية، وإنما كانت تقتصر على مجموعات معينة من المهاجرين الأوروبيين الذين غزوا هذا العالم الجديد، منذ ما يقرب من أربعمائة سنة أو يزيد حاملين معهم عاداتهم وتقاليدهم المتنوعة والمختلفة قبل ان تصبح أعياداً لكل الأميركيين. ومرد ذلك ربما كان له علاقة بالأصول التي يتحدر منها هؤلاء المهاجرون.
فبالرغم من المساحة الصغيرة التي تشغلها أوروبة على خريطة العالم فإن ذلك لم يمنع سكان بلدانها العديدة من التمتع بعادات وتقاليد خاصة بكل منها؛ في المأكل والملبس وطريقة الاحتفالات على أنواعها. وكان من الطبيعي أن يحتفظوا بهذه العادات وان ينقلوها معهم الى أميركا موطنهم الجديد. من ضمن هذه الأعياد:
Saint Patrick Day,National Random Acts of Kindness Day, National Pack your lunch Day ,National Tater Day
ولن أنسى العيد المخصص لفاقدي البصر، National White can Day هذه الأعياد لها إشارة رمزية معينة او دلالة بيئية وحضارية مرتبطة ببلدان معينة في أوروبا؛ كألمانيا وإيطاليا وايرلندا وغيرها.
ولست اليوم في معرض الحديث عن هذه الأعياد ورمزيتها وربما سيكون لي عودة للحديث عنها في مقال لاحق. وانما سأتناول وجهاً اّخر من وجوه الاختلاف، التي صادفتني ايضا هنا، ولها ارتباط مباشر بالأعياد، وهو اختلاف مواعيدها مع بقية بلدان العالم. فالمعروف عالمياً أن الأول من أيار هو عيد العمال في كافة بلدان العالم. وقبل اقامتي هنا لم أكن أعرف على سبيل المثال أن عيد العمال العالمي الذي نحتفل به في الاول من أيار، مايو من كل عام، يصادف هنا في شهر أيلول، سبتمبر.
أما عيد الأم الذي ارتبط موعده في ذاكرتي منذ الطفولة مع قدوم الربيع في كل عام حيث يصادف حلوله في الثلث الأخير من شهر اّذار، مارس. وقد درجت العادة في لبنان ان تقام الاحتفالات العائلية وأن يقدم الأطفال من مصروفهم الشخصي الذي ادخروه بعض الهدايا لأمهاتهم وجداتهم …
بعد اقامتي في نيويورك لأكثر من سنتين اكتشفت أن عيد الأم هنا أيضا؛ مختلف في توقيته فهو يحل في شهر أيار مايو، وليس في اّذار مارس، ومختلف كذلك في طريقة احتفال الأميركيين به.
أول عيد أم صادفته هنا بعد وصولي الى نيويورك تزامن مع العام الأول لوصول الجائحة. فلم الحظ أي شكل من مظاهر الاحتفال بسبب الإقفال العام والتباعد الاجتماعي اللذين فرضا على المدينة.
السنة التي تلت بدأ الانفراج يعود تدريجياً بعد اقفال تام قارب السنة، بدأت بعده المدينة تستعيد نشاطها المعتاد مع بعض الحذر. ابنتي ندوة، المقيمة في نيويورك منذ حوالي عشر سنوات أرادت أن تحتفي بي وتحيي المناسبة على طريقتها، فلا قالب حلوى في المنزل ولا هدايا صغيرة وإنما مفاجأة أعدتها لي سرا.
صباح الأحد 9 أيار انطلقنا من أستوريا باتجاه بروكلين، قاصدين حديقتها العامة “بروكلين بوتانيك غاردن” وقد عرفت لاحقا أنّ ندوة كانت قد حجزت أونلاين بطاقتي دخول مسبقاً.
على مدخل البوابة الرئيسية كان هناك ازدحام كبير لسببن؛ اولهما كثرة الزوار قاصدي الحديقة، وثانيهما التدقيق الشديد والتأكيد على وضع الكمامة على الفم والأنف قبل الدخول والتجول في الحديقة.
الحديقة كبيرة جدا كمعظم حدائق نيويورك العامة الموجودة في كافة انحاء الولاية وعلى سبيل المثال؛ “برونكس بارك”،”، نيويورك بوتانيكل غاردن، “ولكنها تقصر مساحةً بالطبع عن حديقة “سنترال بارك” الشاسعة التي تتوسط صخب مدينة مانهاتن، ويقطعها نهر الهدسن في الوسط تقريباً.
كان اول ما استقبلنا بعد عبورنا البوابة الرئيسية، ووصولنا الى الباحة الكبيرة أجمة كبيرة من الورود البيضاء والحمراء زاهية الألوان. استوقفني بهاؤها لأخذ بعض الصور التذكارية قبل ان أسلك وابنتي احد الممرات، والتي تودي الى احدى جهات الحديقة المتعددة. كان لابد لنا من وقت لاّخر من مراجعة بعض الخرائط المنتشرة هنا وهناك، لنستدل على مكان وجودنا ونتجنب تكرار زيارة نفس المكان.
ما لفت نظري في هذه الحديقة ليس فقط ضخامة الأشجار والذي يعود تاريخ غرسها الى ما يزيد عن مائة عام، وانما تنسيق الزهور التي امتدت على شكل حقول كبيرة من النرجس المتعدد الألوان، الأبيض والاصفر. الى الزنابق على انواعها وألوانها المختلفة، وكذلك الورود. أما أكبر الحقول المزروعة فقد كان حقلاً كبيرا من زهور اللافندر(الليلك) بلونه البنفسجي الزاهي وعطره الذي كان يملأ الارجاء. ناهيك عن الجداول المائية المتعددة والنوافير، والتي تضفي على المكان حياةً وجمال.
وكان علينا الا ننشغل كثيرا بما يحيط بنا فقط من جمال الطبيعة، وان نعود بين فترة لأخرى لمتابعة بعض البرامج الفنية التي تنفذها عدة فرق موسيقية قدمت الى الحديقة لإحياء هذه المناسبة (عيد الأم) وقد حضرت الى الحديقة ثلاث فرق موسيقية وتوزعت في ثلاث جهات مختلفة منها. وقد تمكنا من حضور حفلتين فقط. وتخلينا عن الثالثة التي كانت ستبدأ بحدود الساعة الخامسة مساء ولن تنتهي قبل السابعة.
كاد النهار ان يشرف على نهايته ونحن ما زلنا نتجول في أرجاء الحديقة ونتمتع بجمالها الطبيعي الساحر. حتى وصلنا الى بقعة صغيرة مغروسة ببعض انواع الورود ومحاطة بسور من شبك حديدي بخلاف باقي اقسام الحديقة الأخرى. وكما كان سروري عظيما بعد دخولي اليها عندما عثرت على بعض غرسات الورد الجوري البلدي، الذي نستخدمه في صنع ماء الورد وبدون اي انتباه، أو تركيز وجدت نفسي أقطف واحدة منها وأتشمم عطرها النفاذ، وذلك قبل ان تشير لي ابنتي بأنني قمت بعمل محظور يعاقب عليه القانون…
قرابة الرابعة بعد الظهر كان التعب قد نال منا، وكنا قد توغلنا كثيراً داخل الحديقة وأصبح طريق العودة غير واضح المعالم. ما دفعنا للاستعانة بإحدى السيارات الجوالة والتي تعمل داخل الحديقة على تأمين خدمة التنقل والدليل في اّن لمن يرغب من الزوار.
لم يستغرق وصولنا الى البوابة الرئيسية سوى دقائق معدودة؛ لأن سائق الحافلة الصغيرة التي أقلتنا كان يعرف دائما أقصر طريق للعودة الى المدخل الرئيسي.
كان يوما مميزاً بالنسبة لي، وتجربة جديدة وغنية للاحتفال بهذه المناسبة. فبعد أن قضيت ردحا طويلا من الزمن أحتفل بهذا العيد مع أفراد عائلتي ولاحقاً مع زميلاتي المدرّسات اللواتي كن يحرصّن سنويا على مشاركتي الاحتفال بهذه المناسبة؛ تعبيرا منهن على المودة والمحبة المتبادلة بيننا. وكان الاحتفال يقتصر على تقديم الهدايا والتحلق حول قالب الحلوى وقضاء وقت ممتع معاً.
اما أولادي المقيمين خارج البلاد فكانوا يكتفون بإرسال باقات الزهور مرفقة ببطاقات التهنئة بالعيد. ويحتفظون بالهدايا لأقرب موعد لقاء.
سعيدة كنت في اقامتي في نيويورك، وسعيدة ايضاً في التعرف الى حضارة مدينة جديدة، هي بدورها منفتحة على حضارات وثقافات شعوب وبلدان متعددة.