طفولة تحلم بجناحين – عن التشكيلي عصام طنطاوي

طفولة تحلم بجناحين – عن التشكيلي عصام طنطاوي

خالد جهاد

لا ينسى أي منا – مهما بلغ من العمر- لحظاته الأولى وخطواته الأولى وإحساسه الأول بكل ما حوله، في لحظةٍ وجودية تقود أي إنسان إلى اكتشاف ذاته أو اكتشاف الحياة التي تظل لغزاً كبيراً بالنسبة له فتزداد مع الأيام غموضاً.

لذا تبقى ذكريات الطفولة هي الأجمل والأقرب إلى أغلب البشر حاملةً معها موسيقى من نوع ٍ خاص لا يتدخل في صياغتها أحد، بل تنبع من أعماق كل منا بطريقة ٍ عفوية تنساب بنعومةٍ كالشلال وتمر عبر أيامنا لتثير الحنين الذي لا يموت إلى الذات، وكأن الدروب التي نمشي فيها والمسافات التي نقطعها تقودنا إلى العودة حيث جذورنا، فتبدو النهايات توأماً للبدايات وكأن الأضداد وجهان يلتقيان أمام مرآة ٍ واحدة، ولا شيء يستطيع أن يظهر تناقضات الإنسان والحياة بكل وضوح كما الفن، وعندما يكون الفنان مثقفاً حقيقياً، تلقائياً، صادقاً، يطل على الناس من خلال العديد من النوافذ الفنية تكون لتجربته أبعادٌ أعمق ونظرةٌ أشمل والحديث هنا عن جانب الطفولة في بعض أعمال الفنان الأردني الكبير عصام طنطاوي، وهو فنان تشكيلي ومصور فوتوغرافي كما كتب لسنواتٍ طويلة في عددٍ من الصحف والمجلات العربية.

فنلحظ دون أدنى شك البعد الحالم في كثير من لوحاته وكأننا نتجول داخل مخيلة طفلٍ صغير، ممتلئةً بالصور والأفكار والأسئلة والأحلام، كما تفيض بالوجوه والألوان والتصورات التي يحاول فيها أي طفل فهم هذا العالم الكبير والمزدحم بالأحداث التي يفهمها (الكبار) ويملكون في تصورهم اجاباتٍ لكل سؤالٍ يخطر ببالهم مهما بلغت صعوبته، فيسافرون عبر الخيال إلى كل مكان تصله أدمغتهم الصغيرة لتزيل كل الحدود، فتكشف الكون بدءاً من عالمها الخاص لتمر بعوالم الآخرين المتشعبة والممتلئة بالتفاصيل، كما نرى الطفولة في لوحات الفنان عصام طنطاوي وكأننا نرتكز على الفن بنظرةٍ ذات مرجعية متصلة بعلم النفس فنلحظ تصوراته الأولى للحياة والكائنات والطبيعة وعالم البالغين، كما تستمر بشكلٍ متوارٍ وغير مباشر كرسومٍ على الجدران والبيوت القديمة وكأن هناك نوعاً من المزاحمة الوجدانية للطفولة بين محاولات ٍ لظهورها بشكل ٍعلني عبر هذه النقوش الصغيرة على جدران الزمن كنوعٍ من الاحتجاج على تهميشها، أو كشكلٍ من أشكال التذكير بها وإن كان ذلك بصوتٍ منخفض النبرة.

وتستمر وجوه الأطفال بالظهور متخذةً منحىً تصاعدياً عبر ملامحهم المثقلة بالبؤس والحزن بسبب الفقر والجوع واليتم وظروف الحرب التي تدفعهم إلى العمل في سنٍ مبكرة، عدا عن وضعهم الإنساني المخجل بسبب أزمة اللجوء، فالفنان الأردني عصام طنطاوي يعيش في الأردن كبلدٍ يتوسط كلاً من العراق وسوريا وفلسطين، والذي شهد موجاتٍ من تدفق اللاجئين اليه بعد الأحداث المؤلمة التي عصفت بهذه البلاد التي تحمل مكاناً كبيراً في قلبه وتشكل جزءاً من الهوية والذاكرة الجمعية والحالة الوجدانية في الدول العربية بشكل ٍ خاص والتاريخ الإنساني عموماً، فرصد هذه الأزمات المتلاحقة عبر وجوه الأطفال سواء كان من خلال لوحاته أو عدسة كاميرته في جولاته داخل الأردن وخارجها فكانت ملمحاً ومحطةً هامة تستحق أن نتوقف عندها في مسيرته.

لكن هذا ليس كل شيء. فبرغم الجانب الحزين للطفولة في بعض أعماله نرى في البعض الآخر انتصاراً لها من خلال منحه للطفل مقدرةً خاصة على الطيران بعيداً عن القهر والقمع والكبت، فيظهر الطفل محلقاً مع بعض البالونات الملونة التي تمثل الفرح، وتهبه أيضاً القدرة على مساعدة أطفالٍ آخرين ليحظوا ببعض الأمل فيتشبثون بقدميه ليطيروا معه وكأنهم يستعيدون طفولتهم من جديد، كما نرى أنه يعطيهم القدرة على الاختيار حيث لا يحظى الكثير من الأطفال بفرصة اختيار واقعهم من خلال لوحةٍ يطير فيها الطفل خلف حمامةٍ بيضاء تجسد السلام والحلم الذي يتمناه، وتبدو بمثابة أملٍ لطفلٍ آخر يتمنى أن يطير مثله لكنه مكبلٌ بالكثير من القيود التي تفرضها عليه بيئته ونرى مرارتها في نظرة عينيه وذراعيه العاجزين اللتان ترغبان في التحول إلى أجنحة ليغير واقعه الذي يقوض أحلامه. لكنها لا تزال حافزاً للاستمرار في المحاولة.

وبكل تأكيد فإن عالم الأطفال عالمٌ يمتاز بالرقة والبراءة والنقاء التي لا يستطيع أن ينفذ إليها أو يقترب منها إلا قلب صادق وقادر على إيصال صوتها، وقد استطاع الفنان عصام طنطاوي أن يقدم جزءاً هاماً من صورتها عبر أعماله مما أضاف إليها مضموناً نحتاج إلى التفكير فيه، خاصةً في زمننا الحالي الذي يحمل الكثير من الأسئلة والمشكلات المعقدة والتي يسعى الفن الحقيقي دائماً إلى تقديمها وجعلها في الواجهة أملاً في واقعٍ أفضل.


عصام طنطاوي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s