اللوحة: الفنان الإيطالي جيوفاني برا غولين
لم يكن ذلك وقتًا مناسباً له ليتلقَّى مخابرةً هاتفيّة؛ فهو كان قد وصل مهرولًا إلى الباحة أمام مدخل المستشفى، بضع خطوات فقط ولن يكون هناك من إرسال في الداخل، هناك، حيث سينعزل لبضع دقائق عن شبكات الإرسال الخليويّة بسبب وجود ذلك القسم من المستشفى بمحاذاة الثكنة العسكريّة، قبر مركز توزيع الدّواء.
لم يكن لديه الآن وقتٌ للاستماع إلى حديثٍ قد يطول وفق طول “فتيل” المهاتف. كان عليه أن يدخل إلى غرفة العناية لمتابعة طفل كان الأطباء المقيمون يحادثونه عنه طوال مسافة الطّريق، الذي قصّر يوم العطلة من طول مسافته الافتراضيّة.
لم يكن يحبُّ الكلام خلال القيادة وإن كان يستخدم كل الأجهزة الإلكترونيّة الآمنة، كان يعلم أنّ نسبة تركيزه على الطّريق لا بد لها أن تخفّ ولو قليلًا.
إذا كان سيجيب على هذه المخابرة، فذلك يعني أنَّه سيُضطَّر للامتناع عن الدخول لبعض الوقت مخافة فقدان الإتّصال.
- “بس بَرْكي حدا مضطَّر؟”، تمتم وهو ينظر متأفِّفًا إلى شاشة الهاتف.
كان يعلم أن خمسةً في المئة من الاتِّصالات التّي يتلقَّاها يوم الأحد من المرضى تكون فعلًا اتِّصالاتٍ طارئةً، أمَّا الباقي فيكونون مجرَّد أشخاصٍ مستعجلين، ولكنه كان يرضى بالتَّضحية التي يفرضها عليه هؤلاء محبّةً بمن لديهم فعلًا حاجةٌ تستحقّ.
- “نعم، من معي؟” لم يكن يحب كلمة “ألو” وقلَّما كان يستخدمها لافتقادها لمعنًى ولوجودٍ في قواميس اللُّغة العربيّة.
- “ماذا تقصدين ثلاثة أيَّامٍ دون نوم؟” سأل الوالدة والدّهشة تملأ صوته بعد أن سمع حديثها الغريب.
- “كما أقول لك يا دكتور، قد مضى عليها ثلاثة أيام بلا نوم وهي تبكي طوال اللَّيل، ماذا أستطيع أن أعطيها لتهدأ؟
سارع إلى تحويل الهاتف إلى وضعيَّة مكبِّر الصوت ليستطيع استعمال شاشة الهاتف للولوج إلى ملفّات مرضاه المصنّفة أبجديًّا والتي يزامنها يوميًّا مع ملفَّات حاسوبه الرّئيسيّ، بعيدًا عن غيوم الشّبكة العنكبوتيّة، حفاظًا على سرّيَّة مرضاه الطّبّيَّة.
- “انتظري لحظة يا سيدتي” لم يكن من السهل عليه تذكّر كلّ مرضاه، فمعظم الحالات تتشابه، وكذلك تصرفات الأهل في غرابتها. “ولكن يا سيِّدتي، المرَّة الأخيرة التي قمتُ فيها بفحص ابنتك كانت منذ سنةٍ ونصف، لا أستطيع أن أبني تشخيصًا سليمًا عبر الهاتف لعلاج طفلةٍ مضى هذا الوقت الطَّويل على معاينتها سريريًّا. هل قُمْتِ بعرض ابنتك على طبيبٍ في هذين اليومين، منذ أن توقّفت عن النّوم يعني؟”
- “لا يا دكتور أنا أريدها فقط أن تنام خلال اللَّيل، لا تهمُّني ساعات النّهار. إنَّها تتشنَّج مثل العادة ولكن منذ بضعة أسابيع لم يعد دواء التَّشنُّج يكفيها، مع أنَّني أعطيتها حبتين مساءً”.
أغمض عينيه بأسى لبضعة لحظات، وفرك جبينه بإبهامه وسبّبابته اليُمنَيَين.
- ألو دكتور هل تسمعني؟
- يا سيِّدتي، عندما عايَنتُ ابنتك منذ سنةٍ ونصفٍ، كنت قد وصفت لها هذا الدَّواء بمعدَّل ربع حبَّة ليليًّا لمدَّة أسبوعين ثمَّ تقومون بإجراء فحص دمٍ وتقومون بعدها بمراجعتي، وذلك لم يحدث، وهذه الجرعة بالمعدَّل الذي تعطينه فيه من الخطورة بمكان مما يستلزم فحص الطفلة سريريًّا وإجراء فحوصات دم سريعًا للعلاج.
- ولكنَّني أريدها فقط أن تنام في اللَّيل، هل أستطيع أن أرفع الجرعة قليلًا بعد؟ هي لا تنام ولا تدع إخوتها ينامون ولا تدعني أنام لا أنا ولا والدها.
لم يصدِّق إصرار الوالدة على سؤالها، وعلى تحديد رغبتها بإراحة محيط المريضة مع استثناء المريضة، ولكنّ ذلك لم يكن بالمستغرب عند الذي يعرف منحى الفكر الشّرقيّ لمعالجة العوارض مؤقَّتًا دون البحث عن علاجٍ جذريٍّ للأسباب.
- “لا يا سيدتي لا تستطيعين”، قالها بحزمٍ قبل أن يضيف، “من أشار عليك بزيادة الجرعة؟”
- هناك عدة أهالٍ لديهم أطفالٌ مثل ابنتي، وكنَّا نتبادل الآراء عبر صفحة الفايسبوك وعبر “ڠروب” الواتساب وجميعهم نصحوني بزيادة الجرعة.
- “كيف يعني؟” سألها وهو لا يصدّق هول ما يسمعه، ونبرة الثّقة في صوت هذه السّيّدة التّي أوهمها الاطّلاع الضّئيل على بضع حذافير على الإنترنت أنّها تستطيع التّلاعب بمقادير الأدوية والعقاقير.
- أنا كنت أرفع الدَّواء تدريجيًّا كلَّما كان التَّشنُّج يزداد وكانت تعود للنَّوم ليلًا، ونرتاح بضعة أيّام، ولكنَّها لم تعد تتجاوب مع الدَّواء مؤخّرًا.
لم تكن الوحيدة التي تقرر التَّلاعب بجرعات الدَّواء بناءً على نصائح يلقيها مجهولون على الشَّبكة العنكبوتيَّة بهدف حصد بعضٍ من زوّار المواقع العشوائيّين.
- هذا الدواء هو علاج للتّشنُّج وليس دواءً للتَّنويم، يا سيّدتي” قال بنبرة حازمة لا تبعد كثيرًا عن الحدّة والعلوّ في النّبرة، “نحن لا نعطي الأطفال أدويةً منوِّمةً، وهذا الدَّواء كسواه يجب أن تتمَّ مراقبته بفحوصاتٍ سريريَّةٍ ومخبريَّةٍ”
- ولكنَّها كانت تتحسَّن كلَّما كنت أزيد الجرعة!
لعلّ الوالدة لم تكن تعي أو ربّما كانت تحاول أن تتجاهل حقيقة أنَّها كانت تتسبَّب بنوعٍ من الإدمان عند هذه الطِّفلة.
- “سامع صوتها يا دكتور؟” تابعت القول وهي تقرِّب هاتفها من الطِّفلة التي تئنُّ بألمٍ، “ما الذّي يُحتمل أن يكون سبب بكائها برأيك؟”
- سيّدتي، لا يجوز أن تتركي ابنتك في البيت مدّة ثلاثة أيامٍ وهي على هذه الحال، ويستحيل على أيِّ شخصٍ كان أن يقوم بتشخيص حالتها عبر الاستماع إلى مجرد أنين عبر الهاتف.
- ولكنَّني بعيدةٌ جدًّا عن بيروت يا دكتور، ضَروري أنزل لعندك شي؟
- يا سيِّدتي، هناك عشرات المستشفيات بالقرب منك، رجاءً احملي ابنتك وتوجَّهي بها إلى أقرب غرفة طوارئ ليعاين ابنتك طبيبٌ ويكشِف سبب بكائِها الذّي مضى عليه ثلاثة أيام، فيكون التشخيص باليقين وليس بالتكهن، ونعالج السّبب عوض إغراق الفتاة بالمسكّنات.
لم يكن من السّهل إنهاء المكالمة مع تلك السَّيِّدة، هي كانت فقط تريد منه أن يَسمح لها برفع جرعة الدواء ولو بإذنٍ صوتيٍّ عبر الهاتف، عند طفلة لا تستطيع التَّعبير عن سبب وجعها.
أعاد الهاتف بحزن إلى جيبه وتوجَّه مُسرعا إلى داخل مبنى المستشفى، لحظاتٌ ويصير خارج نطاق شبكات الإرسال.