د. حسام عقل
اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد
إن القارئ لمجموعة «حدث ذات حلم» للقاصة الشاعرة حنان عبد القادر، سيجد نفسه – في تلك المجموعة – أمام عدة ثيمات واضحة تستخدمها الكاتبة في تضافر مع اللغة بشكل خاص، فأبرز ما يميز هذه المجموعة، الأداء اللغوي الذي صبت فيه، كما أن هناك نفسا واحدا ينتظم المجموعة بشكل عام، مما يعطيها شيئا من وحدة البنية وتماسكها، لكن قد يكون كوجه آخر من أوجه العملة، يعطي إحساسا بأن القصص تستقي من بئر واحد.
هذه المجموعة فاجأتني لأنها المجموعة الأولى لحنان عبد القادر، ومما يثير تعجبي وإعجابي أن تكون بهذه القوة؛ لاعتقادي أن الكاتب يصعد سلم الكتابة درجة درجة، وكون تلك المجموعة تخرج بهذه القوة، فإن ذلك يشي باختمار تجربة القص لدى حنان عبد القادر وأنها تأخرت كثيرا بالدفع بعملها إلى النور.
وفي هذه القراءة السريعة، سأعرج أولا إلى الإهداء، ومن ثم سأتوقف عند النصوص واحدا تلو الأخر في قراءات متوالية، لنقف على لغة الكاتبة، وتمكنها من أدواتها القصصية.
سأبدأ من الإهداء الذي نعده جزءا عضويا من النص، تقول فيه: «كل الذين تسولوا بدمائنا خبز الخطيئة، باعوا طزاجة حلمنا للعابثين»، إذن عين الذات الساردة هنا موجهة إلى الفاسدين الذين عكروا طزاجة الحلم، وهذه هي الثيمة التي تلعب عليها قصص المجموعة، فأحيانا نجدهم متجسدين في صورة حشرة ضخمة، وأحيانا في صورة طائر مخيف، لكنها تقلب هذا الرمز على كل وجه.
وفي تناولنا لما جاء من نصوص في تلك المجموعة، سنتوقف عند النص الأول، بعنوان «انطفاء».. نص الافتتاح الذي يعد في علم النص الحديث حمال دلالات خاصة، نحن أمام مناورة بين عاشقين، والعشق موجات لها مدها وانحسارها، والعاشقة هنا تريد لهذه العلاقة أن تتوهج طول الوقت؛ لكن يبدو أن العاشق دخل مرحلة الانطفاء وهنا دور العاشقة في إعادة الحياة لتلك العلاقة.
نحن في انطفاء أمام انطفاء فعلي وتدريجي لعلاقة كانت متوهجة في يوم ما، وهذه العاشقة في بعض مراحل المناورة العشقية – إن صح التعبير- قد تفشل في إعادة توهج هذه الحياة، فكيف تستعيض عن ذلك وتعوضه؟
سيتحول المعشوق إلى جثة باردة لا تحسن تلقي الانفعالات والأحاسيس بالتوهج الوجداني المفترض، تقول: أهذا أنت؟!
رمقته منكسرة.. يدير لها ظهره.. ويشخر بتنغيم.
كنت أحسب وحشتي يؤنسها ارتباطي بك.. ستنير دروبها شموع زفافنا ألقا يمتد عبر أمسياتنا المشتعلة؛ فيطفئ كل منا حنين الآخر متوهجين بدفء الحياة.
ثم تتحول القصة إلى استرسال في مناجاة، وكثير من قصص تلك المجموعة في معظمها تتخذ من بنيتها شكل المنولوج الداخلي وتبدو كثير من منولوجات هذه المجموعة – وخاصة انطفاء- مأهولة بكثافة الروح الشعرية الغنائية، «عندما تدفق البوح وهاجت الروح…»، «لم يكن بمقدور أحدنا أن يطفئ عينيه».
الملحوظ في هذا المقطع أن منسوب الوهج الإنساني الوجداني يتضاءل شيئا فشيئا، وهذا يحدث في كثير من مطارحات العشق والغرام، حيث لا تستمر بوهجها الأول.
تقول: الأيام متشابهة، والليالي باردة، كلما أحس قلبي الصقيع؛ تمسحت بك.. كهرة…
أنتظرك طويلا.. أوقد شموعي لأصنع بعض بهجة.. أرتدي أحد أثوابي التي تخيرتها لتزين عينيك؛ فتأتيني تعليقاتك الساخرة، نظراتك الباردة.. أتحلزن حول وجدي.. وأندس في قوقعتي، أتقلب في ناري حتى الصباح.
لغة #حنان_عبد_القادر لغة استعارية تفيض بالمجاز.. تناور مع المعجم اللغوي وتنحت لغتها الخاصة، ويبدو ذلك في الاشتقاقات غير النمطية كقولها «أتحلزن» حول وجدي، حيث اشتقت فعلا يعكس خصوصية المرأة عندما تنكسر فتلوذ بشرنقتها وتلجأ إلى خصوصيتها.
#حسام_عقل
لغة حنان عبد القادر لغة استعارية تفيض بالمجاز الرائع وهنا أقول بلا مبالغة حنان تناور مع المعجم اللغوي وتلعب معه، وتنحت لغتها الخاصة، ويبدو ذلك في الاشتقاقات غير النمطية، الاشتقاقات التي تعد نحتا لغويا، مثل قولها: «أتحلزن» حول وجدي، فمن الحلزون اشتقت منها فعلا، وهذا الاشتقاق العجيب يعكس هنا خصوصيتها وامتلاكها ناصية اللغة، كما يعكس في القصة خصوصية المرأة عندما تحس أن الطرف الآخر لا يستقبل الإرسال بالقوة المطلوبة؛ فتلوذ بشرنقتها وتلجأ لفكرة الخصوصية.
العاشقة هنا تيقنت أن حالة الوجد قد انطفأت فتستعيض عن هذا «بدُشِّ» الماء تستقبل رذاذه فالعشق مات إكلينيكيا، لكن العاشقة ما تزال تمارس مناورتها لاستعادته وبعث الحياة فيه.
تقول عبد القادر: «هوت يدك على صفحة وجهي.. وقفت أمام المرآة أزيل ما علق به من ألوان.. أحسست برغبة في الاسترخاء بعد حمام دافئ.. استلقيت في “البانيو”.. فتحت “الدُّش”.. انطلق رذاذه يدغدغ جسدي المنهك.. أسبلت عيني.. لأول مرة أشعر بلذة غريبة، الماء المتدفق يداعبني في رفق…. ».
إن المجموعة القصصية بدلالة هذه القصة التي تصلح أن تكون مؤشرا لمعظم قصص المجموعة، مسرحها الداخل وليس الخارج، فمعظم الأحداث تدور في الداخل، والذات الساردة أيضا تجوس في الداخل تفتش عن مخاوف الإنسان المعاصر في عصر العولمة.
هل أكون مبالغا إذا قلت إن قسما كبيرا من قصص المجموعة يبدو محكيا بمنظور أنثوي، وقد يكون هذا محفزا لنا لإعادة مناقشة الأدب النسوي؟ أظن هذه المجموعة ستفتح شهيتنا للحديث حول مدى كون هذه الفكرة مقبولة في عالم النقد والفنون والآداب.