د. جمال عبد الرحمن
اللوحة: سلفادور دالي بعنوان «أكل لحوم البشر» – بداية الحرب الأهلية الإسبانية
شارك متطوعون عرب إلى جانب قوات الجمهورية، في الحرب الأهلية الإسبانية، وهو أحد الأسباب التي أحدثت تغيراً كاملاً في موقف الفكر الإسباني من الحضارة العربية الإسلامية، حيث وقف اليسار الإسباني موقف الرافض للثقافة العربية، بينما أيد المحافظون الإسبان العرب والمسلمين، ويتحدث كثير من الناس عن وحشية الجندي المغربي – مع أنه كان ضحية أكثر مما كان جلادا – وفي هذا المقال نستعرض نماذج من قصائد الشعراء الذين عاصروا الحرب الأهلية وشهدوا ويلاتها، وكيف صوروا الجندي المغربي.
لدينا نماذج من الأدب الذي سطره المناصرون لكل طرف، ولكننا سنكتفى الآن بعرض صورة الجندي المغربي كما ترد في أشعار الجمهوريين.
القصيدة التالية تستعيد التاريخ وتشبه فرانكو بخوليان الذي استعان بالمسلمين، والمسلم الذي تقدمه القصيدة إنسان يؤيد المعتدي الخائن:
«مدريد.. حصن شهير» – أوليسيس، يناير 1937
واحسرتاه يا مدريد
فالمسلم قد حاصرك
من خلف مشربيات
تشكلها أغصان مغطاة
في القرى والبلاد
…..
……
لا أوبا ولا خوليان
لا الألمان ولا المسلمون
ولا القادة الخائنون
سيطأون أرضنا الشريفة
والجندي المغربي لا يتورع عن اغتصاب النساء، فهذه لينا أودينا نموذج الفتاة المكافحة التي تضحي من أجل الدفاع عن قضيتها. إنها شجاعة ولا يتمكن من قتلها سوى فرقة جنود كاملة:
لينا أودينا محاصرة
محاصرة من جهة شجر الصنوبر؟
يطاردها عشرون مسلما
يحملون عشرين سيفا
عيونهم فيها صورة الموت
دماؤهم فيها الوباء
يريدون أن يأخذوها حية
من أجل متعة همجية
اهربي يا لينا، اهربي، اهربي
اركضي، فمن الممكن أن تنقذي
…………
يسمع صوت رصاصة باردة
ويسقط جسدها الممشوق.
هناك قصيدة نلمح فيها نزعة عنصرية، الشاعر هنا لا يروق له أن يرى غرناطة وقد احتلها المغاربة السود:
«إعادة احتلال غرناطة» – بلا إى بليران، سبتمبر 1936
آه يا غرناطة، من يمكن أن يراك
ليس بنو سراج
هم الذين يحتلونك
نهر من الدم الثخين؟
يجرى في شوارعك الضيقة
فتتشح بيوتك البيضاء
بالحزن والكراهية
أدى اشتراك عدد كبير من المغاربة المسلمين في الحرب إلى وفاة الكثيرين، مما استدعى أن تخصص مقبرة لهم. القصيدة التالية ينفر صاحبها من وجود المغربي حتى وإن كان ميتا، لأن هذا المغربي كان في حياته يتصف بالوحشية:
«مقبرة المسلمين» – فالنسيا، سبتمبر 1937، مجهولة المؤلف
أيتها الفراشة السوداء
عودي إلى محبسك
عودي أيتها الفراشة السوداء
واتركي الموتى
الحديقة مليئة
بقبور بيضاء
ذكرى لمن كانوا يعيشون
………
لا تقضى مضجع
من أجبرهم جبروتك على الصمت
القصيدة التالية تصور جانبا آخر من واقع الحرب الأهلية الإسبانية: ليس كل المسلمين الذين اشتركوا في الحرب إلى جانب فرانكو سواء. نعم هناك المتطوع الذي يؤيد المتمرد، لكن هناك المغلوب على أمره والمخدوع. نلحظ هنا أن الشاعر يفرق بين الشخصين: الأول “مورو”، أما الثاني فهو “مسلم”:
«قصيدة عن المسلمين» – فالنسيا 1937، مجهولة المؤلف
عد إلى إفريقيا أيها المورو
ففي أرجاء إسبانيا
لن تجد إلا حتفك
دون جدوى، ودون أجر.
قادة حمقى
نواياهم سيئة
وعودهم سراب
جاءوا بك إلى إسبانيا.
إسبانيا تحارب ببسالة
من أجل حريتها
والمسلمون الشجعان
يجب أن يساعدوها
….
عد إلى بلادك أيها المورو
وأرق دماءك الزكية
من أجل تحريرها
من الكلاب ومن الجبناء
ومن المستغلين الأشرار
الذين يستنزفون ثرواتك
ويعيشون من خيراتك
ويكافئونك بالموت
………
لا تقبل وعودا كاذبة
بمنحك أرضا وأجورا
فهؤلاء القادة الفاشيون
لم يفوا بوعد أبدا
«المسلم المخدوع» – إيميليو برادوس،نوفمبر 1936
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
فإسبانيا لا تناسبك
…..
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
عد بسرعة، ارحل
النقود التي أعطوك إياها
أوراق مزيفة،
ووعودهم خداع
تهدد حياتك.
إنهم يخدعونك يا أخي
…..
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
لكن لا تترك سلاحك
…..
عد إلى بلادك وحارب
ضد الكفار الكلاب
ليس من العدل أن تترك بلادك
وحيدة ليس بها إلا الضعفاء
بينما تدافع عن أعدائك
دون أن تدري
لم تنقطع النداءات إلى المسلم لكي يتخلى عن فرانكو وينضم إلى الجمهوريين. القصيدة التالية تصور لنا كيف أن أحد الجنود استجاب للنداء
«المسلم الهارب» – أنطونيو غارثيا لوكى، سبتمبر 1936
صباح ريفي
والأسكوريال يبدو في الخلف
نبح المدفع
صعدت أجساد بينها رجال
إسبان ومسلمون.
ومن أسفل
كان القديس رافائيل يحميهم.
صعدت قوات من العرائش كي تحاربنا
يقودها ضباط مجرمون
ويدعون أنهم مسيحيون.
مصطفى بن على محمد
أسود العينين، ولحيته سوداء
…….
زحف على الحشائش
ثم نهض فجأة ورفع قبضته عاليا
ووقف وحيدا أمام البنادق وقال:
أيها الرفاق، أنا يكون أحمر
لا تطلقوا النار، فأنا يكون أحمر
هذه السخرية من اللغة الإسبانية عند المغاربة سبق أن استخدمها كيبيدو ومعاصروه (كما يذكر خوليو كارو باروخا، ص. 134)
كانت الحرب الأهلية في نظر اليساريين صراعا بين الثقافة والتعصب (الطرف الآخر قتل لوركا لأنه شاعرSalaun, 300’ 301 إذن فإن اشتراك المسلم مع الطرف الآخر يؤكد أنه عدو للثقافة، عدو للحرية، عدو للمبادئ النبيلة عموما. لقد حزنت الجمهورية لمقتل لوركا، وشددت الحماية على ماتشادو للسبب نفسه. لقد عينت سفراء من رجال الفكر (بيريث دى أيالا في لندن). ألم تتخذ الجمهورية الإسبانية شكلا متميزا؟ ألم يكن رئيسها من المثقفين؟ ألم يكن المحرك الأول لها مجموعة من رجال الفكر (أيالا، أورتيغا، مارانيون) ألم تكرم الأدباء بشكل خاص؟
تعقيب على القصائد المنشورة
أرجو ألا بغيب عن ذهن القارئ أن القصائد التي عرضناها كتبت في ظروف استثنائية، ولذلك فقد تنقصها الجودة، شأنها في ذلك شأن الشعر الارتجالي والترجمة التي ينشرها صاحبها على عجل. ثم إن “الأدب الموجّه” بطبيعة الحال أدب غير جيد، شعرا كان أم نثرا، والقصائد المعروضة تندرج تحت هذا المسمى بامتياز، فالهدف المرجو مباشر ولا يخفى على أحد. ثمة ملاحظة أخرى تخص أسماء المؤلفين. بعض الشعراء اختاروا عدم الكشف عن هويتهم، وهي القصائد التي كتب تحتها أنها مجهولة المؤلف، وبعض الأسماء المذكورة مستعار، والسبب معروف: كان بوسع قوات فرانكو أن تنتقم من أهل الشاعر إذا كانوا يقيمون في مناطق تقع تحت سيطرتها. وقد كان لي شرف التعرف على صديق إسباني رأى أهوال الحرب الأهلية وهو طفل، وحكى لي عن معاناة المواطن العادي، الذي يتبع أحد الفريقين عندما يريد المرور في أرض تتبع الفريق الآخر. أما الأسوأ حظا فهو الإنسان الذي لم ينضم إلى أحد الفريقين، فلم يكن بوسع أحد أن يقف على الحياد (الوقوف على الحياد معناه معاداة طرفي النزاع، ومن ثم فكان من الأيسر أن تنضم إلى أحد الطرفين، حتى لو لم تكن مقتنعا.
خاتمة
في هذا المقال الأخير ينتهي ما كتبته عن الموضوع حتى الآن، لكن الموضوع له بقية، فقد وصلتني بعض الوثائق من أحد أساتذة قسم الدراسات العربية بالمجلس الأعلى للبحث العلمي في مدريد، وبنوع من المصادفة: لقد اعتدت في رحلاتي العلمية إلى العاصمة الإسبانية أن أزور قسم الدراسات المذكور، وقد لقيت من الأستاذة مانويلا مارين معاملة خاصة جعلتني أتصور أنني صاحب مكان. أبو البقاء الرندي قال إن “لكل شيء إذا ما تم نقصان”، وفى إحدى زياراتي إلى المجلس الأعلى للبحث العلمي رآني أستاذ هناك، ويبدو أن شيئا ما فيَّ لم يعجبه، فلم يخف استياءه، وقال لي إن التدليل الذي ميّز أيام الدكتورة مارين قد انتهى، وإن علىّ الآن أن أتعامل معه وفق نظامه هو. كان الرجل حازما، لكن رفضه للآخر كان واضحا، فما كان منى إلا أن أفهمته أن ما أبحث عنه موجود في المكتبة الوطنية وأن بإمكانه أن يستريح، لأنني لن أدخل المكتبة، وسأكتفى بالحضور غدا لمقابلة الدكتورة غارثيا أرينال. المهم أن الرجل فوجئ بأنني أعرف الجميع تقريبا، ويبدو أنه سأل عنى زملاءه فحدثوه عنى بشيء من المبالغة. في اليوم التالي حضرت قبل موعدي مع الدكتورة غارثيا أرينال بدقائق، فجاء يحييني ويسالني إن كان وقتي يتسع للحديث معه بعد انتهاء المقابلة. كان أسلوبه مختلفا تماما عن أسلوب الأمس، وقلت له إنني سأمر على مكتبه. في مكتبه وقف يحييني، وقال إنه مدين لي باعتذار شديد، وأنه علم من الزملاء أن هناك اهتمامات تجمعنا، منها موضوع المغاربة الذين حاربوا إلى جانب فرانكو. أطلعته على الوثائق التي وجدتها، وأطلعني على وثائقه، وكانت غربية حقا..