نزوح

نزوح

حنان عبد القادر

اللوحة: الفنان الأردني عصام طنطاوي

عشر سنوات مرت منذ نزحتُ إلى تلك البقعة مع عائلتي، عشر سنوات انتهكت فيها طفولتي وضاعت براءتي وعانيت ما عانيت من قهر وذل وإهانة وامتهان، عشر سنوات.!

نعم، منذ أن أقصيت قسرا إلى هنا، وأنا أنتمي إلى هنا، أنا ابنة المخيم، ابنة العراء، كل العالم لا يناديني إلا بذلك، ولا يتعامل معي إلا على هذا الأساس، وفي المخيم قصص وحكايا وروايات، واحدة من تلك القصص أنا، نموذج من حكايات تتكرر يوميا مع فتيات من عمري، ولدنا بمكان، ونزحنا مرغمات لمكان علينا التأقلم مع كل جديد فيه في صراع فقط مع البقاء.

عشر سنوات مضت.. تعاقب فيها علينا البؤس والشقاء والجوع والذل، وامتدت إلينا أيادي الإقامة والكفالة و”الشاويش” بالتهديد في كل لحظة، تحالفت ضدنا المنظمات التي لا تجيد غير رفع الشعارات، ونحن نرفع شعارا واحدا: ” نحب الحياة إذا ما استطعنا اليها سبيلا”.

تقول النساء بالمخيم: “الكفيل كأنه كتب كتابه علينا”، عندهن حق، فهو يتحكم بنا وبرجالنا، يستعبدهم في العمل ويبخس أجورهم، وينتقي من البنات الفتاة الأجمل لتخدم زوجته، و…. أشياء أخرى لا يمكن الحديث عنها، ويطلق يد الشاويش “ناطور المخيم” فينا، فهو الوصي على ساكني الخيم، يرتب الأشغال ويوزع الأعمال، ويتدخل في تزويج البنات وترتيب شؤونهن الخاصة، وفوق ذلك يحدد ما يدخل من إغاثات ومساعدات، ويقصى الصحافة، ويفرض الجبايات.. آه آه...

الشاويش! كله ولا الشاويش، يسوقنا كالأغنام منذ الصباح الباكر إلى الأراضي الزراعية التي أتيح لنا العمل فيها بأجور زهيدة لا تشتري خبزا، ونعود مع مغيب الشمس، نحن والرجال في المخيم تبادلنا الأماكن، النساء فقط تعملن لكسب الرزق طوال النهار  يرافقهن الأطفال القادرين على العمل دون الخامسة عشر لأنهم غير ملزمين بأوراق الإقامة، أما الرجال فيرعون الصغار وكبار السن ويهتمون بشؤون المخيم حتى نعود، فقانون الكفالة المفروض علينا جعلهم يلزمون أماكنهم خوف السجن أو الاعتقال، فما باليد حيلة، والحياة لا ترحم، ففي كل عائلة فقيد أو سجين أو شهيد.

قبل أيام ساقنا الشاويش كالعادة إلى شاحنة الخضرة لتقلنا إلى العمل، لكنه لم يأبه لتوسلاتنا أن يخفف العدد قليلا، كدنا من الاكتظاظ أن نلفظ الأنفاس، يريد أن يوفر بعض المال على حسابنا، لكن وعد كانت الثمن ، دفعت حياتها بلا مقابل، صديقتي التي كنا نؤنس بؤس طفولتنا باللعب بالأحجار والأخشاب والعلب البلاستيكية الفارغة التي نجمعها من القمامة لنبني بها عالم خيالنا، ربما قررت فجأة أن تتخلى عن شعارنا، ربما ندهتها نداهة الموت فجاوبتها، سقطت وعد في لمحة بصر أمام أعيننا من الشاحنة، لتعانق إسفلت الطريق مفارقة الحياة..

ولم تكن إيمان ثالثتنا أوفر حظا، فقد زوجها أبوها الشهر الماضي لشاب من المخيم بعدما تعرضت للتحرش أكثر من مرة، يقولون الزواج سترة، وزوجها سيحميها، وقتها دفع مهرها عدة دولارات على قدر سعته، كانت بمثابة معونة مؤقته لأهلها، وانتقلت من خيمة أسرتها لتعيش في خيمة زوجها، وتزيد أعباءها ومسؤولياتها، وتنضم لمن يعشن على حافة الرمق.

أما سمية، فلها مع الشاويش حكاية، رغم أنها لم تتجاوز السابعة عشرة، وهو يفوق والدها عمرا، إلا أنه لم يتورع عن مضايقتها والتعرض لها، حقا هي جميلة، وتبدو أكبر من عمرها، لكن ذلك لا يبرر له فعلته، ولما تمنعت عليه ذهب لخطبتها، فهددت بالانتحار، وبدوره صار يضيق عليها وعلى أسرتها مهددا لهم بالطرد من المخيم، وبنفوذه ومعارفه سيمنع أي أحد من استقبالهم في مخيمات أخرى، وتحت الضغط والعوز تزوجته المسكينة، ولم يمر عام حتى عادت لبيت أبيها تحمل لقب مطلقة.

عندما نتعرض لصدمة تليها أخرى، فإن الصدمات تتراكم فوق بعضها بعضا حتى تسد فتحة الأمل، لكن المحن والأزمات ربما تكون اختبار لنا نربحها أو نخسرها، لكنها بالتأكيد تعلم فينا، تترك ندوبها المزمنة التي لا يمكن التخلص منها.

وعد، إيمان، سمية، وأنا، نماذج لكثيرات تتعرض إنسانيتهن للانتهاكات اليومية، وهن يقفزن فوق تروس عجلة الحياة كلاعب الأكروبات الماهر، يحاذر السقوط، فسقطة واحدة تكفي لخروجه من اللعبة للأبد.

4 آراء على “نزوح

  1. الصديق العزيز أيمن جبر.. شكرا لتوقفك للقراءة.. أعتز برأيك. في انتظار عبير مرورك .

    إعجاب

    1. لقطة حزينة وصادقة، كنت أعتقد أن المخيم معاناة وحده، وليس بابا للدخول إلى دنيا المعاناة. مقال رائع

      إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s