خالد جهاد
يولد كل البشر متساوين كأسنان المشط حتى يغير القدر مسار حكاياتهم أو يسعى أحدهم بنفسه إلى رسم مساره وحياته التي يحلم بها وتعني له أن يحولها من خيالٍ إلى واقع، فيخفق البعض أحياناً كما ينجح البعض في اختياره الذي يصنع اسمه إلى الأبد، ليظل في الأذهان جميلاً بعد رحيله كما كان كذلك وهو بين الناس، مثل فنانةٍ اختارت طريقها ورسمت ملامحها بيدها فتوجت وردةً تعشق تربتها ولم يعتريها الذبول رغم الغياب الطويل الذي جعلها أجمل وأجمل.. حديثنا اليوم عن الفنانة المصرية الراحلة تحية حليم..
هي فنانة مبدعة من طراز خاص جداً صنعت بيديها أو بالأحرى بقلبها الزمان والمكان الذي انسابت منه ريشتها لتبدع عبر مشوارٍ طويل إرثاً ثقافياً ووطنياً خالصاً يحكي الإنسان الحقيقي عبر لوحاتها. ولدت في التاسع من أيلول/سبتمبر عام ١٩١٩ لأسرةٍ أرستقراطية في مدينة الخرطوم السودانية في ما كان يعرف باسم سلطنة مصر في زمن الاستعمار البريطاني، حيث كان والدها يعمل ضابطاً مقرباً من الملك فؤاد الأول، أما الأم فهي من أصولٍ تركية قوقازية، وجدتها كانت عازفةً للبيانو في القصر الملكي، ومع ذلك وحسب بعض ما جاء في مذكراتها فإن والدها أصر على تربية أبنائه كمصريين رغم وجود بعض مظاهر الترف والاختلاط بفئات كثيرة تتحدث بلغاتٍ أخرى، وهذا ما جعل الوالدة والجدة لا تتحدثان سوى العربية أمامها وأمام إخوتها ومن ثم تلقت تعليمها في بعض المدارس الفرنسية لفترةٍ من الزمن، أما موهبتها فبدأت باكراً في سن الخامسة حيث أصبحت تعي الألوان والأشكال والتراكيب حسب ما جاء على لسانها في مقتطفاتٍ من مذكراتها التي لم تنشر، وبعض الأحاديث النادرة لها ضمن لقاءات وأفلام وثائقية وتسجيلية نادرة فكانت تقول: «في سقف البيت القديم كانت توجد رسومات.. كنت أنام على ظهري وأشوف ملايكة شايلين ورد ومراكب وصور كتير.. أفتكر حبيت الفن من هنا»، فكانت تقوم بالرسم على الدفاتر والأغلفة وحتى أغطية مخدات النوم أو كل ما تقع عليه عيناها وهو ما لفت نظر والدتها ومعلمتها في مدرسة الأشراف الابتدائية للبنات بالعباسية، لكنها لم تكمل دراستها بعد المرحلة الابتدائية، ولذلك طلبت من والدها تعلم الرسم، مما دفعه ليأخذها للتعلم على يد الأستاذ جورج طرابلسي اللبناني لمدة عامين ونصف تقريباً قبل أن يهاجر إلى كندا.. ثم تعرفت بعده على الفنان حامد عبدالله عام ١٩٤١ بصالون القاهرة، والذي عرفها بدوره على رسّامٍ يونانى اسمه جيرونوميدس، ولتبدأ من هنا مسيرتها في المشاركة في معارض فنية بشكلٍ مستمر بدءاً من العام ١٩٤٢.
انطلقت رحلتها الفنية بعد هذه المراحل التحضيرية بشكلٍ فعلي، حيث شغل هذا العالم عقلها وملأ كيانها وتطورت موهبتها سريعاً، تماماً كعاطفتها مع الفنان حامد عبدالله والتي تكللت بالزواج رغم معارضة الأهل عام ١٩٤٥، وليذهبا بعدها سوياً إلى باريس للالتحاق بأكاديمية جوليان عام ١٩٤٩ لمدة عامين، وتم الانفصال بينهما لاحقاً..
«عملنا حياة كانت فيها كفاح كبير» قالتها تحية حليم مستذكرةً في أحد التسجيلات بداياتها الفنية التي لا تنساها أبداً على الصعيدين الشخصي والمهني، وعادت ابنة شقيقتها نجلاء رياض للحديث عنها قائلةً: كانت جدتي (والدة تحية) ترسل إليها مبلغاً يقدر بنحو ٢٥ جنيهاً مصرياً شهرياً، وعلى الرّغم من أنّه لم يكن مبلغاً قليلاً خلال تلك الحقبة الزمنية، فإنّه لم يكن يغطّي مصاريف الإقامة والدراسة اليومية من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءً، ما اضطرها أحياناً إلى تناول وجبةٍ واحدة في اليوم، والاكتفاء بتناول الخبز وحده لعدة أيام حسبما جاء في المذكرات، ورغم ذلك نجحت في تقديم إبداعٍ حقيقي، ولم تضعف أمام هذه الصعوبات، رافضةً تقديم أي رسومات ذات طابع تجاري، أو الاستسلام للقواعد والرؤى الكلاسيكية الغربية التي تنظر إلى البيئة المصرية باستعلاء، بل على العكس تمسكت الفنانة التي تربّت ما بين القصر الملكي -حيث كان والدها (كبير الياوران) بالقصر الملكي في حكم الملك فؤاد- والمدارس الفرنسية، بتصوير الجمال المصري المتمثل في جدران البيوت العتيقة وسُمرة الوجوه وطمي النيل والفخار المحروق وسطوح التلال المحيطة بالوادي الأخضر.
مثلت مصر في معارض بالخارج منها بينالي ساوباولو عام ١٩٥٤ كما مثلتها في بينالي ڤينيسيا وأيضاً في بينالي الإسكندرية عام ١٩٥٥، ثم عادت وحدها إلى مصر عام ١٩٥٧ لتبدأ مرحلةً جديدة ومختلفة وبزخمٍ أكبر وقالت عن عودتها «رجعت مصر.. وعملت حياتي لوحدي وفني لوحدي»، وكان عام ١٩٥٨ حافلاً بالنجاحات فشاركت في بينالي الإسكندرية من جديد كما حصلت على جائزة الدولة التشجيعية، شهادة تقدير من صالون القاهرة، وحصلت على جوائز عالمية منها جوجنهايم في نيويورك في نفس العام.
أما في العام التالي عام ١٩٥٩ فنالت جائزة لبيب جبر والميدالية الذهبية، ثم انتدبت للتدريس بالكلية الفنية للبنات بالزمالك، فساهم تراكم هذه السلسلة من الإنجازات والنجاحات إلى حصولها على منحة تفرغ من الدولة من ١٩٦٠-١٩٧٥ وهو ما جعلها من ألمع وأهم الأسماء الفنية في فترةٍ زمنية قصيرة نسبياً، أثبتت فيها موهبتها وكفاءتها..
لكننا نستطيع القول بأن زيارتها ضمن بعثة د.ثروت عكاشة لمجموعة من الفنانين التشكيليين والمفكرين إلى النوبة عام ١٩٦٢ بمثابة نقطة تحول بالنسبة لها، وكان من ضمن الأسماء المشاركة المعماري الشهير حسن فتحي والشاعر الكبير صلاح چاهين ولويس عوض وغيرهم، لترى عن قرب نمط الحياة اليومية للفلاحين من خلال حياتهم وطقوسهم والوقوف على أدق تفاصيلهم في مختلف الأوقات، وجعلها تتماهى معهم وتربط بين نمط معيشتهم ونمط معيشة الإنسان المصري القديم، وطريقة تعامله مع الحياة وفهمه لها واحتفائه بها، وكأنها وقعت في حب الحضارة وتقمصت المراحل والعصور التي مرت بها مصر على مدار التاريخ، ووصلت البشر بالطبيعة والكائنات التي تشاركه الأرض.. تلك الأرض التي رأتها في وجوه الناس وملامحهم، فصنعت منها ملحمتها الفنية الكبرى.
فلا تستطيع وأنت ترى أياً من أعمالها ألا تنبهر بكمية الصدق والعاطفة التي رسمتها بها وكأنها ترسم قلبها من الداخل، وترسم ماضيها وحاضرها وعشقها وترى الإنسانية في عيون شخصياتها السمراء البسيطة النقية المتدفقة كالنهر، والأصيلة كالتراب، والحنونة كالأم، شخصيات تتمتع بشفافية عالية ترى مرآتها في الطبيعة وزينتها في الطين والبيوت والفخار والشمس الدافئة، وشمت قصائدها في أرواح العشاق وسكنت لياليهم ولمساتهم وخلقت من همس الرياح مقطوعتها الموسيقية التي تبدأ من الأرض وتنتهي بها، جاعلةً من الإنسان رسولاً لها، وكأن تعلقها بها أقوى من بشريتها وأقوى من روحها فلا تملك أمام محبتها خياراً سوى أن تستسلم لحالة الذوبان الكلي التي تعيشها فيها، بحيث تنصهر في أحضان التاريخ ووصايا الراحلين وأغنيات الفلاحين الذين عاشوا في أعماقها فكتبت لهم الخلود عبر لوحاتها.. تلك اللوحات التي تضج بالأنغام والألوان التي طوعتها لتشبه سمرة الطين والوجوه وتجمعها معاً في حالة عناقٍ لا ينتهي.
واستمراراً لمسيرتها الفنية وعطائها الكبير حازت على الميدالية الذهبية في التصوير (في عيد العلم) عام ١٩٦٠، كما نالت جائزة الدولة التشجيعية في التصوير عام ١٩٦٩ مع وسام العلوم والفنون، ودعيت أيضاً لعمل معرض بألمانيا الشرقية من الحكومة الألمانية عام ١٩٧٢، ومعرضاً آخر ببولندا بدعوة من حكومتها في نفس العام، ونفذت لاحقاً قرابة ٨٤ لوحة بفنادق الوجه القبلي والقاهرة بين عامي ١٩٧٤-١٩٧٥، عدا عن اقامتها معرضاً بالولايات المتحدة عام ١٩٨٠، دون أن ننسى تعيينها عضواً بالمجلس الأعلى للفنون بين عامي ١٩٨٠-١٩٨١، وعينت عضواً بمجلس الإدارة لأتيليه القاهرة للفنانين والأدباء لمدة خمس سنوات إلى جانب الكثير من المعارض على مدار مسيرتها وتكريمها بشكلٍ دائم وكان آخرها جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٦، وكانت أعمالها ضمن مقتنيات متحف الفن المصري الحديث بالقاهرة، متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، ومتحف الفن الحديث بإستكهولم والكثير من المؤسسات في العديد من بلاد العالم، ولا زالت تقام المعارض والفعاليات على شرف تحية حليم ومن وحي أعمالها كصورةٍ أو انعكاس للنوبة التي عشقتها وظلت مرتبطةً باسمها وظلت ترسمها حتى توفيت في ٢٤ أيار/ مايو عام ٢٠٠٣ عن عمر يناهز ٨٣ عاماً، لتترك إرثاً ثقافياً فريداً، محاولةٍ لا تتكرر لوردةٍ عشقت تربتها وأخلصت لها فكرست حضورها في ذروة الغياب عاشقةً للأرض، تسطر قصائدها في عيون من ترسمهم.








