زمن ما بعد العاصفة

زمن ما بعد العاصفة

د. هشام منصور

اللوحة: الفنان الأميركي يعقوب لورانس

كان السير بطيئًا رغم قلّة السيارات في شارع الحمرا العريق في بيروت. المدينة لا زالت تعاني من آثار الانفجار والحصار الاقتصادي إضافة إلى وباء الكورونا الذي كان قد بدأ ينحسر تاركًا خلفه تداعياتٍ تُفاقِم من آثار الأزمة الاقتصادية والسِّياسيَّة في البلاد. طالعته صورة السَّيِّدة صباح تزيّن الحائط الجانبيّ للمبنى الذي يلي مفترق فرنسبنك. كانت من الجيل الفنّيّ الذي استحقَّت مطرباته لقب سيِّدات، وإن تفاوتت سيادة كلّ منهنّ وفق طابعها الإدائيّ، في زمن لم يكن الابتذال متاحًا عند المؤدّي والمتلقِّي على السّواء.

واصل سيره في الشّارع القديم وهو يحدّق أكثر في واجهات المباني باحثًا عن الأوتيل الذي يستضيف المؤتمر في هذا اليوم. 

لم يكن معتادًا على متاهات منطقة الحمرا وطرقها المتشعّبة الأحادية الاتِّجاهات. كان يعلم أن الدُّخول إليها يشبه الولوج إلى دهاليز ألعاب الأحاجي الألكترونية.

 كان اعتاد زيارتها مستقلًّا الباص رقم سبعة تفاديًّا للازدحام، واعتاد على رصيفٍ يتعثَّر فيه المشاة بعضهم ببعض، ولكن ذلك لم يكن في الأمس القريب. كان عليه أن يغوص بعيدًا في الذِّكريات في أواخر التِّسعينيَّات، حين كانت شبكة النَّقل العامّ تعمل بانتظام، قبل أن يقوم رجال السِّياسية بالقضاء عليها فسحًا في المجال أمام مضاربة شركات النّقل الخاصّة. 

لم يكن صعبا يومها الوصول إلى ال Book Bazar مستعينًا بالخارطة البدائيّة التي رسمها له صديقه على قصاصة ورق بالية وتحتها أسماء الكتب والجرائد العتيقة التي أوصاه بالبحث عنها، هو يذكر كيف عاد بعد مشواره الأول وهو يحمل خمسة مجلدات من مجلَّة سامر تحتوي على أول عدد بالألوان.

ابتسم وهو يراجع هذه الخاطرة اللَّطيفة بينما كانت السَّيدة القابعة داخل كومبيوتر السَّيارة تكرّر: 

You have arrived to your destination

أكمل سيره بعد واجهة الفندق وسيدة ال GPS لا زالت تنادي بحدَّةٍ وتعيد تكرار عبارتها المبرمجة

“وْلِك حاجي تحكي فْهِمْت عليكِ”، إنتهى بالصراخ متوجِّهًا إلى شاشة الكومبيوتر، فلا هو ولا الذّي برمجه يعلم بألغاز زواريب منطقة الحمرا، فمدخل المرآب كان يختفي خلف المنعطف الذي عبره للتّو، ممَّا يعني أن عليه أن يقوم بدورةٍ طويلةٍ عبر الشوارع الأحاديَّة الإتِّجاه.

“بسيطة مش أول مرة”، هو عرف أين موقع المؤتمر ولن يصعب عليه إيجاد موقف قريب في أحد الشوارع الموازية.

كان قد مضى عليهم عامان على الدُّخول في زمن العولمة الفرضيَّة، حيث انتقلت المؤتمرات العلميَّة من العواصم والمدن المُترفة إلى الصَّالونات والمكاتب وربَّما غرف النَّوم.

لم يعودوا بحاجةٍ للتَّحضير أسابيع مسبقةً قبل السَّفر، ولم يعد عليهم أن يخسروا ساعات انتظارٍ في المطارات ومحطّات القطار حاملين الحقائب والملفّات. 

صحيح أن السّياحة ولذّة السّفر والشَّوق إلى الإلتقاء بالزُّملاء كانت تغلب دومًا على لذّة الأستماع إلى محاضرةٍ علميّةٍ رتيبةِ الوقع، على دسامة محتواها الطّبيّ، فكلّ المؤتمِرين كانوا يختارون الأساسيّ لاختصاصهم من محاضراتٍ ويقومون باستكشاف المدينة خلال المتبقي من الوقت. ولكنَّ هذه المؤتمرات لم تكن تبتغي فقط التّلقّي العلميّ للمعلومة بل أيضًا إلى تبادلها بشكلٍ مباشرٍ وليس عبر شاشة حاسوبٍ وبريدٍ إلكترونيّ.

كان الجزء الأوّل من المؤتمر قد انتهى للتّوّ وخرج الجميع إلى استراحة القهوة. لحظاتٌ وأُرهِقت يده من السّلامات، 

مضى عليه وقتٌ اعتكف فيه عن المصافحة نظير سواه والتزم الجميع بنقر المرافق أو بدقّ أطراف قبضات اليد.

“اشتقنالك” بادره طبيبٌ من الرّعيل الأوَّل مرحّبا به، “بَعدَك حاطِطْ هيدي؟”، سارع العجوز بالقول وهو ينزع الكمَّامة عن وجهه ويعانقه بالطَّريقة التَّقليديَّة، “بَلا قِلّة عقل، خَلَصْ، اللي راح راح، واللي لقط لقط، خلّينا نشوف وجّك”

“الدكتور على حقّ” أردفت زميلة في حلقتهم حول طاولة القهوة، “صار لي سنتين ما زبّطت حالي وحطّيت make up مش حتّى خبّي وجهي” وأطلقت خلفها ضحكةً عالية النبرة.

تبسّم لملاحظتها فهو أيضًا لم يلبس بزّة في كلّ المؤتمرات الفرضية في العامين المنصرمين، حين انحصر الاهتمام بهندام ولياقة الظّاهر لعدسة كاميرا الكومبيوتر فقط. كانت حينها قاعة المحاضرات قد تحوَّلت إلى لوحة جهاز كومبيوتر يصير فيه المشاركون سطورًا متتاليةً على طرف الشَّاشة الأيسر، مع رقم في أعلى اللائحة يدلّ على عدد المشاركين ويفيد شركات الدَّواء المموِّلة لمعظم المؤتمرات للتّقييم الكميّ للمحاضرة، بغضّ النّظر عن المحتوى العلميّ. أمّا المحاضرون فكانت صورتهم تتوسّط الشَّاشة عند الإلقاء وتتبدّل تباعًا إلى أن تتحوّل الشّاشةُ إلى مجموعة نوافذ يطلُّ منها المؤتمرون على المستمعين في لحظات الحوار. 

لا شك أن مهابة الوقوف على منصّةٍ أمام قاعة تغصّ بالمحاضرين كانت تعطي نكهةً متميِّزةً للمحاضرة، وكان افتقاد هذه النكهة جليًّا، ولكن بطريقة إيجابيَّةٍ فالمُحاضر بات يُطلُّ من غرفة في منزله اعتَبَرها الأفضل لملاقاة ناظِريه عبر نافذةٍ قياس ١٦ ب ٩ عبر تطبيقات زووم أو ويبيكس أو تيمز او سواها من التَّطبيقات التي أزهرت في حقول الشبكة العنكبوتيَّة الفرضيَّة، فأصبحت محتوايات المُحاضرات مسجَّلة ومحفوظةً بحذافيرها في ذاكرات حواسيب بلادٍ خلف البحار تتحضَّر للغزو القريب.

ولم يطُل الوقت حتّى بدأت التَّطبيقات تُعطي المُحاضر فرصة إعطاء المُداخلة مُستعملًا خلفيّةً فرضيّةً تُغطّي خفايا مكتبه أو غرفة الاستقبال ولكن ذلك لم يغيّر في كون المحاضرات أصبحت بحكم “أهليّة ب محلّيّة، يرتاح فيها المستمع إلى المُحاضر ويتابعه حين يشاء ولا يجد حَرجًا في كتم صوته عبر مذياعه الخاص حينًا آخر. ولا حرج في توقُّفه المفاجئ عن المتابعة للمحاضرة، فهو تستطيع إلقاء اللّائمة في كلّ حينٍ على رداءة الإتِّصالات بالشَّبكة العنكبوتيّة التي كانت خيوطها تتّسع كلّ يومٍ مقتنصةً فريسةً جديدة.

أصبحت الصّالات معلّبةً في لوحاتٍ إلكترونيّة تفرض النّظام الآليّ العسكريّ بقوّة العزل والطّرد الفرضيّ. فلم يعد هناك مَن يوتّرون رصانة الصّالة بدخولهم وخروجهم العشوائيَّين.

لو كانوا لا زالوا في ذلك الفضاء الفرضيّ لما كان استطاع الدخول متأخّرًا إلى الصّالة ولما كان عليه التقدّم بتؤدة محاذيًّا الجدار متخفّيًا في ظلاله مخافة قلقلة أداء المؤتمرين. توجّه عريف المؤتمر لتحيّته مصافحًا ومشيرًا إلى الكرسي على الطّرف الأيمن من الصّفّ الأوّل وهو يقول هامسًا “ربع ساعةٍ وسأقوم بتقديمك استهلالًا لمحاضرتكم، والمنبر يكون لك لعشرين دقيقة، وخمس دقائق لأسئلة الحضور

تحسّس مفتاح ال USB في جيبه للمرّة العاشرة في ربع السّاعة الأخير، هو كان أودعه النّسخة الأخيرة من المحاضرة التي سيلقيها اليوم. جلس إلى الكرسي وشخص بعينه إلى الشَّاشة الواسعة التي تمتدّ خلف زميله المُحاضر إذ تتوالى عليها نصوص موضوع النّقاش بسلاسة ووضوح. لم يكن هناك من عيبٍ في الصّوت ولا من تشويشٍ في صورة الشّاشة، إنّه زمن ما بعد العاصفة الإلكترونيّة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s