رصاصة الرحمة

رصاصة الرحمة

محمود حمدون

اللوحة: الفنان النمساوي فريدريش أميرلنغ

بدا أن المقعد المقابل لي، الذي تفصلني عنه طاولة من “البلاستيك” زرقاء اللون، أصبح أقرب لكرسي “الاعتراف”، ذلك الذي قرأت عنه وسمعت من قديم.

 حينما رأيت “عبد التواب”، يقترب وينحط بجسده مرة واحدة كصخرة تهاوت من أعلى، أدركت أنه يعاني، أن اليأس رافقه حتى المقهى هذه الليلة، فآثرت أن يبدأ هو الحديث، بخاصة حينما رأيت دمعة تأبى أن تنحدر من عينه، تجاهلتها، أشحت بوجهي ليقيني أنه يعاني فوق ما يستطع بشر، فغالية هي دموع الرجال.. هكذا قلت لنفسي وأنا أتنهّد بصوت عال!

تمالك شتات أمره بسرعة، ثم أسند ظهره للوراء، قال: أعلم قدر مشاغلك، أنك تهرب أيضًا من متاعبك، تلقي بها خلف ظهرك لساعة أو أقل، ننعم خلالها معًا بجلسة هادئة، بعيدة عن الوجع اليومي المعاش، غير أنني اليوم جئت لأتحدث عن مشكلة ألمّت بي!، الحق لم أجد غيرك أحكي له أو ربما لا أرغب في شخص آخر أنزع همومي أمامه.

فهززت رأسي، كأنما أقول له أكمل.

فرك يديه، بصوت خفيض حتى لا يسمعه الجالسون على الطاولات المتناثرة حولنا: أتعرف!، لطالما حسدت خيل الحكومة، تلك التي تنال ميتة شريفة بنهاية خدمتها، لا يهم إن كانت “رصاصة رحمة” كما يقولون، فالقاتل هنا رئيف بها، يدرك حجم وهنها الجسدي، عجزها النفسي حينما تتراخى قوائمها عن حملها.

 تثاقلت أنفاسه، نظر حيث عجوز تتكفف الناس، ثم عاد إليّ وقال: لعلّي كنت أستسخف هذا التصرف حتى فترة قريبة، أراه دموية من البشر تجاه من خدمهم عمره كله، غير أنني حينما انتهيت إلى ما وصلت إليه “خيل الحكومة”، تلفّت حولي فلم أجد رصاصات الرحمة تنتظرني، بل وجدت تعبَا يتزايد، جحودًا يتراكم فوق كتفيّ..

حاولت مقاطعته، غير أنه ردّني بلطف، أكمل: استعرضت حياتي كشريط سينمائي طويل، بدا كل نجاح حققته كقبض الريح، أقرب لعبث، لا لا بل هو العبث في أبهى صوره، لم أجد ممن أقمت حياتي عليهم أية طبطبة على الكتف، لم أسمع كلمة شكر، بل لم أنل في حياتي قُبلة على الرأس.

 أتعرف، أنني مساء أول أمس، عدّدت لزوجتي وأبنائي، ما نشرته من مقالات وكتب وقصص. كنت أنتظر منهم ابتسامات مصطنعة، أو تقديرًا وهميًا قد يسمن بعض جوعي، ربما يغني روحي الخربة من عقود، غير أنني لم أسمع إلاّ عبارة مقتضبة، اعتدتها من سنين: “وإيه يعني”، ثم انفض الجمع من حولي وذهب كل إلى شأنه.

اقترب “توبة”، أكثر، حتى ضاقت المسافة بيننا، أزاح الطاولة الزرقاء للخلف قليلًا وعليها يستقر فنجان شاي لم تمسّه يده. فرأيت وجهًا يقترب من لوحة ” سريالية” تعبّر عن القهر، ثم أومأ إليّ، فملتُ إليه برأسي، همس: أتصدقني حين أقول لك، أنني كلما رأيت حصانًا، اندفعت إليه، طفت حوله، رحت أتبرّك به، أمسح على قوائمه، رقبته وظهره، أغبطه على نهاية سعيدة سينالها، ثم أقول له في أذنه حتى لا يسمعنا أحد: أذكرني عند ربك.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s