عماد جمعة إمام
اللوحة: الفنان الروسي نيكولاي بتروفيتش بوغدانوف بيلسكي
حينما التحقت بمدرسة السعيدية الثانوية العسكرية عام 1978، وجدت عالما جديدا واحتضانا للمواهب والقدرات، ففي الأسبوع الأول من الدراسة أعلنوا عن قبول طلبة جدد في جماعات الصحافة والإذاعة والمكتبة، فذهبت للاشتراك على أمل أن أنجح في الانضمام لإحدى هذه الجماعات المدرسية، وكان ناظر المدرسة أو مديرها وقتئذٍ «محمد أحمد المصري الشهير بأبو لمعه» في السينما والتلفزيون والإذاعة، وهو أشهر «فشار» عرفته السينما والإذاعة، وكان يشارك في البرنامج الإذاعي الشهير «ساعة لقلبك » الفكاهي، الذي كان يضم عددا كبيرا من رموز الفن: عبد المنعم مدبولي، وخيرية أحمد، وفؤاد المهندس، وأحمد الحداد، وأمين الهنيدي، والخواجة بيجو، لكنه في المدرسة كان رجلا تربويا من الدرجة الأولى، حازما بحب، وله صولات وجولات مع الطلبة، يمسك خيرزانة لا تفارق يده، لكنني لم أره يستعملها أبدا، كان يكفي رفعها ليصيب الطالب بالرعب، وكان هذا كافيا لتأديبه، ولا يجرؤ أحد أن يقول أبو لمعة داخل أسوار المدرسة؛ خوفا واحتراما ومهابة، فقد كانت ملامحه جادة جدا على خلاف ما نراه في السينما.
المهم كان كل طالب أمامه دقيقة واحدة يمسك جريدة الأخبار ويقرأ أي خبر، وكنا ندخل فرادى إلى مكتبه، فأمسكت الجريدة بثقة وتقمصت شخصية مذيع نشرة أخبار في التلفزيون، والغريب أن «أبو لمعة» لم يوقفني وأنا أتنقل بين الأخبار وربما تجاوزت خمس الدقائق، ولم يكن هذا الأمر غريبا عليّ، فقد كنت أقرأ نشرة أخبار الصباح في طابور مدرسة الأهرام الاعدادية بالجيزة أمام مئات وربما الاف الطلاب، يعنى ولا يهمني، فابتسم أبو لمعة وقال برافو، وبعد أيام اكتشفت أنه تم قبولي في جماعات الصحافة والإذاعة والمكتبة، وأعلنوا الأسماء في طابور الصباح لحضور الاجتماعات، وكانت الطلقة الأولى للاتجاه نحو عالم الإعلام والصحافة.
أحبني أبو لمعة كثيرا وتوطدت علاقتنا، وأخذ يعلمنا إجراء الحوار الصحافي والتحدث في الاذاعة المدرسية وسرعان ما تم إسناد برنامج الاذاعة لي، والاشراف على تنظيم الطلبة، رغم أنني كنت في الصف الأول الثانوي، وهناك من يكبرني، لكني أثبت قدرة وثباتا وابتكارا في مختارات الأبيات الشعرية التي كنت أفتتح بها البرنامج اليومي كل صباح، وكانت تجد استحسانا من أساتذتي المشرفين وهم ثلاثة من الأساتذة: أحمد عبد الباري، ومحمد متولي، وناهد حنفي وهذا اسم مدرس وليس مدرسة، وله حكاية، وكلهم أساتذة في اللغة العربية، وكان البرنامج يفتتح بالقرآن الكريم ثم نشرة أخبار الصباح ثم استعراض بعض المواهب في إلقاء الشعر أو العزف أو سرد لمحة عن أحد العظماء، وهى فقرات متغيرة يوميا، وفي الختام: الإعلان عن بعض المفقودات أو التعليمات الموجهة الى الطلبة، ثم يصعد الطلبة الى الفصول في انتظام أثناء عزف الموسيقى.
كان الطلبة يرتجفون في كثير من الأحيان كلما صعدوا للتحدث في الإذاعة ولهم العذر، فقد كانت المنصة الاذاعية محاطة بآلاف الطلاب في طابور الصباح وأمام المنصة تقف هيئة التدريس كاملة يتقدمهم أبو لمعة، والجميع عيونهم متسمرة على المنصة، وقد تصاب بالخضة حينما تسمع صوتك يرن في مايك الميكروفون! المهم كانت المدرسة تصدر مجلة السعيدية عددا سنويا، يتم جمع حروف كلماته على قوالب الرصاص في مطبعة عتيقة بمنطقة عابدين، يتضمن تغطية ليوم الخريجين، وهو اليوم الذى تحتفل به المدرسة سنويا بكل خريجيها من السنوات السابقة، ومنهم نجوم الفن والكرة والوزراء والكتاب مثل يوسف وهبي، وصلاح السعدني، وماهر أباظة وزير الكهرباء، وفكري أباظة الكاتب الساخر، وغيرهم كثير، الى جانب مجموعة من الحوارات والمقالات للأساتذة والطلاب المتميزين فمثلا أجرينا حوارا مع توفيق الحديدي وكان وكيلا لوزارة التربية والتعليم، ومع ماهر أباظة ومصطفى أمين، ولكل حوار قصة نكتفي بسرد قصة حوارنا مع مصطفى أمين في عام 1980.
كنت في الثانوية العامة في مدرسة السعيدية الثانوية العسكرية وذهبت مع أصدقائي في جماعة الصحافة المدرسية لإجراء حوار مع مؤسس جريدة أخبار اليوم العملاق مصطفي أمين، وكان مجرد مقابلته حلم لأي صحفي، وتناوبنا في طرح الأسئلة، وقبل أن أغادر مكتبه قلت له: نفسي أحترف الصحافة والعمل الإعلامي، فقال: عليك بالقراءة؛ فهي الجامعة التي يتخرج منها كبار الكتاب. وكانت لدى مكتبة بالفعل جمعتها من سور الأزبكية بشلنات وبرايز فيها قصص آرسين لوبين وأجاثا كريستي وجى دى موباسان وبعض روايات لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، والشوقيات لأحمد شوقي وخليل مطران ومجلات كثيرة، وسلاسل الكتب الكتاب الذهبي ومن الشرق والغرب ومذاهب وشخصيات وكتابك والمكتبة الثقافية وكتب في الفنون والثقافة متنوعة.
لم تكن هناك فضائيات ولا جوجل ولا انترنت ولا سوشيال ميديا فعدت الى المنزل وأعدت قراءتها على مراحل وأنا أحلم بتحقيق هذا الحلم، وأتساءل: هل سيأتي يوم أصبح فيه كاتبا أو فنانا أو صحفيا؟ وهل سيكون لي كتب وآراء؟ وكنت أحيانا أبكي داخل مكتبتي المتواضعة؛ لأنني أراه حلما بعيد المنال، فالمشوار صعب وطويل ومرهق، ويحتاج الى صبر وإرادة، وكنت أقول لنفسي: يكفيني متعة القراءة والمعرفة، فأنا أشعر أنني زرت كل البلاد التي قرأت عنها، وكل العصور التاريخية، قرأت كأني أعيش فيها وأصبحت أشعر أنني عشت ألف عام على رأى يوسف وهبي، فالحمد لله أخذت أكثر مما كنت أحلم به، وأتمنى أن تعود مدارسنا لاكتشاف واحتضان المواهب لخلق أجيال جديدة واعية قادرة على تنمية المجتمع وحمايته، ولا نتركها فريسة للأفكار المتطرفة والهدامة ومن يعبثون بعقولهم ثم نشكو من الإرهاب والمتطرفين، العلاج يبدأ من المدارس وليتنا نتعلم الدرس.





عماد جمعه إمام كاتب وصحفي، خريج قصر السينما في مجال السيناريو والاخراج قسم الدراسات الحرة، حاصل على شهادة في الدراما الاذاعية، رأس قسم الفنون والمنوعات بعدد من الصحف اليومية، مؤسس ومدير ملتقى الكويت الدولي للكاريكاتير 2016، مؤسس ومدير الملتقى العربي لرواد الكاريكاتير 2017، صدر له عدد من الكتب أهمها: «الباقوري بين الإخوان والثورة» 1992، «خليل اسماعيل الضاحك الباكي» 2004، «تخاريف فنطزية من الأدب الساخر» 2017، «مسرح الشباب» 2005، «سعد الفرج ممثل الشعب» 2016، «يحيي عبد الرحيم ابتسامة لا تغيب» 2018، محمد توفيق وسميحة أيوب كتابان تذكاريان في مهرجان الكويت 2001.
أسلوبك جميل وحكاياتك ممتعة، تحياتي وتقديري
إعجابإعجاب