أيمن جبر
اللوحة: الفنان المصري ياسين محمد
عندما وقعت في يد مصطفى أمين مذكرات لزعماء تاريخيين، تحكي على تجربتهم في المنفى أو في السجن، كانت صدمته كصحفي شديدة، كان يتوقع من هؤلاء الأبطال أن يسطروا في هذه المذكرات، كلمات البطولة.
صُدم عندما قرأ رسائلهم إلى ذويهم، وقت أن كانوا في سجنهم أو منفاهم، دُهِشَ أن انحدرت بحدة مفردات الخطاب، هبطت الطموحات إلى الحضيض، وجدهم لا يتكلمون عن الحرية التي ضحوا من أجلها وسجنوا، لم يوجهوا نداء لمن وراءهم أن أصروا على موقفكم، فحلم الحرية يغطي على أي ألم وأي قيود نعانيها.
بل قرأ في رسائلهم الإلحاح والتأكيد على أن لا ينسوا؛ “زيادة عدد الملابس الداخلية لأن البرد شديد في الزنزانة!، إرسال مبيدا حشريا، لأن الحشرات لا تمكنهم من النوم!، إرسال إبرة وفتلة! ليخيطوا ثيابهم المهترئة!”
ظل السؤال مُلحا وحائرا داخله وبدون إجابة، لماذا لم يجد ما ينشده من دروس في الوطنية والتضحية والفداء في تلك الرسائل؟.
بعد ذلك سُجن “مصطفي أمين” في العهد الناصري، وعُذب تعذيبا فوق الطاقة، كان مريضا بالسكر، وعندما كان يمنع عنه الماء، كان يلحس بلاط دورة المياه ليرطب لسانه.
كان سجنه أكبر خطأ استراتيجي للنظام، فالكاتب هو الذي يُخلد التجربة بقلمة حين يعجز الكل عن التعبير، ولهذا مرت الأزمة وقام بتأليف سلسلة “سنة أولى سجن، وثانية سجن وثالثة سجن”
في سجنه ومحنته جاءته الإجابة عمليا والتي استوعبها كاملة.
يروي صالح حشاد، قائد مدرسة الطيرن، أحد الناجين من سجن تازمامرت بالمغرب عام 1973 /1990م، كان في السجن عنبران، يحتوي كل عنبر على 28 سجينا، وكل عنبر عبارة عن غرف حبس انفرادي متجاورة، حصد الموت في العنبر الآخر أربعة وعشرين سجينا ولم يتبق حيا سوى أربعة، كان من حظ عنبرنا أن مات فقط أربعة، يرجع ذلك لتنظيمنا أنفسنا للتغلب علي خطة الموت المعدة لنا، ثم تقرر ترحيل الأربعة المتبقين من العنبر المقابل الى عنبرنا، دخل علينا منهم رجل طويل الشعر حتى منتصف الجسد، نحن لم نستحم ولم نحلق شعورنا منذ ثمانية عشر عاما، كان جسده منحنيا، لا يكسوه أي طبقة من اللحم، كما يقولون جلد على عظم، هذا الرجل كان عاريا تماما، كان البرد تحت الصفر، فما كان منه إلا أن قال: لا يفل الحديد سوى الحديد، وسوف أتحدى البرد بالبرد، وخلع ما عليه من أسمال بالية وظل عاريا ثمانية عشر سنة، قام بتمارين من اليوجا للتحكم في إرادته وأعضائه، كان ذلك سببا في نجاته، كان آية من إبداعات الإنسان وإرادته التي لا حدود لها في تحدي الموت والتمسك بالحياة.
وهل مثل هؤلاء يتبقى لديهم طموح سوى البقاء أحياء! إن طموحات وأحلام السجين؛ النظر إلى السماء الزرقاء التي يظل شهورا لا يراها، أن ترى عينه وجها بريئا غير وجوه السجانين القاسية المشوهة، أن يجد قطعة قماش تغطي عورته وتمنع عنه التجمد؛ التجمد الذي وصل إلى مركز الدماغ وكاد يؤثر في وعيه وإرادته، أن يتمكن من التغلب على البق والحشرات والفئران التي تزاحمه في الزنزانة. أن ينام لدقائق بكامل جسده ممدودا في تلك الزنزانة الضيقة، أن يحاول التوفيق بين ذلك الإناء الذي يستخدم للإخراج والشراب في نفس الوقت، أن يقرأ كتابا يخرجه بخياله من سجن الجسد.
هذه القصص تنبه الإنسان إلى أن يتريث حين يحكم على أبطال الحاضر والماضي، فلا بد من إدراك أن الأبطال بشر، وأنَّ تخيله أنهم سينظرون شزرا بكبرياء، حين يلمحون بريق السيف الذي يوشك أن يسقط ليفصل الرأس عن الجسد، ما هو إلا تخيل ساذج.
ولو كان هذا الافتراض يصح في بطل واحد، حتما ستنهدم نظرية العصمة التي نمنحها لبقية الأبطال. فرفقا بخيالنا، ولنرحم أنفسنا من تضخيم صورتهم، ولنرحمهم من تحميلهم ما هو فوق طاقة البشر، لأننا إن لم نرفق بهم سنتّخذهم أصناما، وسوف نحمِّل أبطال اليوم ما لا يطيقون وما لم يطلبوا منا أن نحملهم إياه، فرغم أن القصة لا تتحدث عن تنازلات الأبطال، إلا أنها تتحدث عن بشر لا يستطيعون تجاوز الطبيعة البشرية، وهل يوجد بشر يستطيعون تجاوزها؟.

أيمن جبر، كاتب مصري مواليد ١٩٦١، يعمل مهندس كهرباء، صدر له أربعة كتب هي: «فيروس الدروشة» مقالات – 2020.«أخلاق الأتوبيسات» مقالات في التنمية البشرية – 2020. «إكرام الأرملة دفنها» قصص – 2020. «دوائر بلا أسنان» خواطر إنسانية – 2022. بالإضافة إلى العديد من المقالات المنشورة في صحف ومجلات مختلفة.