أجمل هدية.. في ذكرى رحيل شاعر الأطفال سليمان العيسى

أجمل هدية.. في ذكرى رحيل شاعر الأطفال سليمان العيسى

ملك حاج عبيد

اللوحة: الفنان الروسي إيفان جوروخوف

عشقت قصائد سليمان العيسى منذ الطفولة فقد كانت أختي الكبرى معجبة به، 

 وحفظتُ ديوانه «رمال عطشى» وأنا في التاسعة من عمري، رغم أنني كنت شديدة الكسل وأنا في المرحلة الابتدائية، ومرت الأيام وقدر لي أن أزوره في بيته، فكتبت انطباعي عن الزيارة في مجلة العربي بمقالة صغيرة بعنوان «تحية حب إلى شاعر كبير». 

عندما رأيت على الفيس بوك صورة الدكتورة ملك أبيض – زوجة الاستاذ سليمان العيسى – مع لمحة عن حياتها ومؤلفاتها، تذكرت زيارتي لهما، والمقالة التي كتبتها عنهما ونشرت بمجلة «العربي عدد أبريل – نيسان 1995 بعنوان «تحية حب إلى شاعر كبير»:

كنت مع أخي في السيارة نجتاز إحدى ساحات دمشق الرئيسية، وأنهار السيارات تتدفق من كل الطرقات عندما أضاءت الإشارة الحمراء فتوقفنا.. بدأ المارة يعبرون، فأشار أخي إلى رجل تجاوز الستين من عمره، طويل القامة، أبيض الوجه، أشقر الشعر، يضع على عينيه نظارة بعدستين طبيتين سميكتين، وقال: هذا هو الأستاذ الشاعر سليمان العيسى.

تمنيت أن أقفز من السيارة أصافحه، وأتملى وجه هذا الانسان الذي أحببته منذ كنت صغيرة، وأقول له «أشعارك سكنت قلبي وجنحت روحي، لقد علّمت جيلنا كيف يكون حب الأرض والإنسان وعشق الغد العربي الجميل»، ولكنني خجلت من هذه الاندفاعة العاطفية، واكتفيت بمراقبة هذا الرجل الكبير وهو يلتفت حوله كطفل صغير يريد أن يعبر الطريق.

تداعت إلى خاطري قصائده التي حفظناها، تشربنا كلماتها صغاراً ووعينا معناها وعرفنا وجعها كباراً.. شاعرنا الذي تملأ دواوينه المكتبات وأناشيده الكتب المدرسية، شاعرنا الذي تخرجت على يديه أجيال وأجيال يمشي على قدميه؟

قلت لأخي: توقعت أن يكون لديه أحدث سيارة، قال أخي: هذا رجل قد وهب عمره لقضية كبيرة.

وقدر لي بعد فترة أن أذهب إلى منزله، للوهلة الأولى تهيبت الدخول، أحسست أنني سألج معبداً عاش في مكان ناء في أعماق الذاكرة، وها أنا الآن أقف أمام بابه السحري، دخلنا ففاجأتني بساطة المكان، وتساءلت في سري: أهذا هو بيت الشاعر؟

استقبلنا وعلى وجهه ابتسامة طفل بريء، دخلنا الصالة، كانت تشع بساطة وذوقاً، أمامي كانت مكتبة هي أبرز ما في المكان، ثم صور الأولاد والأحفاد معلقة على الجدران، بيت كل ما فيه ينطق بالدفء والمحبة برغم برودة الشتاء.

جلس يتحدث، فرحت أصغي لكلماته الهادئة الحلوة وتساءلت في سري: أما زلت يا شاعرنا برغم كل الاحباطات عاشقاً للأرض العربية ولحلمها البعيد؟

استأذن قائلاً: سأصنع لكم القهوة.. ثم أردف: القهوة هي الشيء الوحيد الذي أتقنه، نظرت إليه زوجته وعيناها تحملان الود والحنان وقالت: أنتَ تتقن أشياء كثيرة.

انصرف بوداعة وراحت زوجته أستاذة الجامعة تتدفق حديثاً وطموحات، جاء يقدم إلينا القهوة، تذكرت قصة الحب التي جمعت بينهما واكتسحت عائق العادات والتقاليد، تذكرت كيف تنازل عن بعثة الدراسة العليا لزوجته وراح يرعى الأطفال عندما كانوا صغاراً حتى عادت من البعثة، رأيت قصة الحب لا تزال تعيش بينهما وما زادها الكبر إلا رسوخاً وعمقاً.

أحسست أنني التقيت بإنسان أصيل وسط مهرجانات الزيف والاستهلاك والادعاء، فارس من الزمن القديم في عينيه الحب وفي جبينه الكبرياء! وأنا أصافحه مودعة شعرت بفرحة من وضعت يدها على سر.. سر العظمة يكمن في الإنسان الأصيل.

أفاجأ بعدها، أن شاعرنا الكبير قد أرسل لي ديوانه «ثمالات» قرأت المقطوعة الشعرية المكتوبة على الغلاف:

يا لطفل ملأ الدنيا رؤى

وأهازيج جنون واضطراب

وسؤالي بعد سبعين انطوت

خطئي العاصف أحلى أم صوابي؟

إنها وقفة الإنسان العظيم أمام ماضيه يسائله وينتظر الجواب، يالتواضع العظمة.. أين منها نرجسية الآخرين؟

ثم قرأت الإهداء فطرت من الفرح، وبدأت بقراءة الديوان إلى أن وصلت إلى قصيدته «لمسة ود» المهداة لي، في الحقيقة انتابني شعور لا أستطيع وصفه، هي نشوة الروح.. هي فرحة القلب، هي إحساس بالغنى والامتلاء وبأن إنسانا عظيما مثله قدر محبتي وامتناني. 

رحمك الله يا شاعر العروبة

أيها الشاعر النبيل الذي عشق أمته وقدم لها عصارة روحه املا بغد جميل.


«لمسة ود»

إلى الكاتبة ملك حاج عيد.. ومساحة ودها ذات يوم..

 

مادا أسميها؟ 

سكبتِ السماء 

فيها على ظلي.. برودا وضاءً 

أعطيتني أثمن ما في الهوى 

براءة الحرف، وعطر الوفاء 

إن كان في الدنيا عزاء لنا 

للغيمة التَّعْبَى.. فهذا العزاء 

سيدتي.. إنا مررنا على 

اطلالنا نزف دم، لا بكاء 

حاولت أن أترك في قفرنا 

عشبة حب.. 


سليمان العيسى (1921 – 2013) شاعر سوري اشتهر بأشعاره الموجهة للأطفال، كما اشتهر بشعره الوطني والقومي، من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1969. ترجم مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض عدداً من الآثار الأدبية. انتخب عام 1990 عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق. كُرم بالعديد من الجوائز. توفي عام 2013 عن عمر يناهز 92 عاما في دمشق.

ملك حاج عبيد أديبة سورية مواليد 1946. عضو اتحاد الكتاب العرب. من مؤلفاتها القصصية: «الخروج من دائرة الانتظار» 1983- «قال البحر» 1986- «الغرباء» 1993- «حكايات الليل والنهار» 1994- «غربـة.. ونساء» – 2000 – «البستان» 2003 – «العاصفة» 2005 – «حكت لي جدتي» قصص للأطفال 2008 – «قمر الزمان» قصص للأطفال 2009.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s