د. منى قابل
اللوحة: الفنان المصري وليد عبيد
لي مع كل رجل قصة، لم أعد أتذكر عددهم ولا أعتقد أن هذا سيساعدك كي تكتبي لي خطة العلاج.. أخبريني بالله عليك من أكون؟ فقد صار الجنون يطير بسرعة بالغة نحوي.. هنا توقفت السيدة “م” لتبتلع غصتها ثم أكملت:
لماذا توقف عن حبي؟ لماذا لفظ قلبي بهذه القسوة؟ كم من مرة أخبرني أنه يحب فيٌ بعض الأشياء وأهمها تلك المرأة النهارية العادية! جريمتي الوحيدة هي أني امرأة عادية في ظروف غير عادية يا سيدتي، امرأة تترك الزجاجات مفتوحة، والأكياس مكدسة في كل مكان كأوجاع بدنها؟ لا تغلق الأدراج بعد ان تبعثر ذكرياتها العفنة في جوانبها، لا تتقن عمل طبق بازلاء رغم امتلاء دمها بصلصة الأنوثة اللذيذة، تركز في شعرة بيضاء اقتحمت رأس حارس العقار خاصتها، ولا تلحظ الندبة الغائرة في كتفها بعد أن قامت بمفردها بتغيير حدود وطنها، رغم أنها لم تحاول لمرة تغيير رقم هاتفها الذي لا تهتم حتى بالرد عليه.. تتحدث مع طيورها في شئون البلاد، وتلقي السلام على صناديق القمامة. امرأة تبدو نهارا كشجرة سامقة، وتستحيل بؤرة يضع الكون اصبعه بين ساقيها ليلا.
وفجأة ارتفع صوتها واحتدت نبرتها وهي تصيح:
لست ماجنة أقسم لك على ذلك، كل ما أردته من هذه الحياة أن آكل قليلا، وأمارس الحب مع رجلي النهاري الوحيد كثيرا، وأحلم طويلا حتى وإن كان العمر قصيرا. لكن الحلم أو بالأحرى الكابوس الملعون لم يفارقني أبدا.. ذلك الشبح الجالس على الشاطئ ينتظر الرجال الذين أعاشرهم وألقي بهم في البحر كل يوم، لو لم يجد يوما من يأكله من رجالي لالتهمني أنا!
أعرف أني مجرد حمقاء تخاف أن تلقى حتفها مرة واحدة بين أنياب شبح، فتلقاه كل يوم في مضاجعة رجل مختلف. لن تصدقي أني لا أمتهن العهر، فالجميع ينعتونني بالساقطة، لكن صوت سياط زوج أمي أعلى من أصواتهم، إن اعترضت يوما سيقتل أمي ويقتلني، أخبريني من العاهر الحقيقي؟ بربك.. أخبريني!
صمتت السيدة المرتعدة لثانية وتجولت بعينيها في حجرة الكشف يمينا ويسارا
ثم اقتربت مني وقالت: لا تخافي، لن يسمعك، فهو يسكن بعيدا، وقد اختلست من إيراد ليلة الأمس بعض الأحلام المبهجة وجئتك لتفسريها لي، ولتخبريني لماذا رحل عني الرجل الوحيد الذي أردت الإقامة فيه؟ أرجوكِ أيتها الطبيبة، أخبريني ولو كذبا أن الشبح سيموت، وكابوسي اللعين سينتهي.. أو اكتبي لي اسم عقار يجعله لا يستطيع مضغ لحمي بعد الموت.
***
لساعتين ونصف أنفقت كل ما امتلكت من محاولات لطمأنتها أن كل تلك الأمور ستتغير، وأخيرًا تنفست “م” الصعداء، وكأنها استعادت الجزء المفقود منها بعدما تقيأت آلامها.. وفي الجلسة التالية، جاءتني ترتدي نظارة سوداء، وتخفي ما استطاعت من جسدها، بدا كتفها مائلا من ثقل وجعها الجديد، وكان آخر ما قالت: أنا بالفعل عاهرة، لكن الحياة هي العاهرة الأولى، لو كانت حرة لأمكننا أن نحياها دون أن يرغمنا عليها أحد.
تعجبني الأديبة التي أشعر معها أنها تجلس أمامي على كرسي الإعتراف ببلاغة شاعرة … أحييكِ وأشد على يديك بحرارة .
إعجابإعجاب