د. صلاح الراوي
اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس
تعلّم كيف تنغمس في هذا العالم دون أن تمس روحك ذرة واحدة من غباره، تراها جبلا وهي محض ذرة، طف بها في استعلاء ولا تنكرها، لا تراوغها فتراوغك، بل حدق فيها بحزم الطائر القوي الجناحين، الممتلك لعشر فضاءات فوق فضائه، فقط، انغمس في هذا العالم انغماسك الفريد الذي ليس فيه ذرة من ظل أحد، أو نص من النصوص سواك، فأنت نَص النصوص التام بذاته.. هيّا توحّد بمعنى معناك.
***
واعلم أنه ليس بينك وبين الله أية مسافة.. كل ذرة مسافة تختلقها سيسكنها شيطان يحاول أن يقنعك بأنه نائبه أو وكيل عنه، وكلما ألقيت له أذنك احتل مساحة أكبر حتى لا ترى الله الذي تعرفه ويعرفك، ولم تكن بينكما مسافة.
***
هكذا خلق الله الوجود، عالما عريضا لرحلة الإنسان، يحلق كيف شاء، ويختار البحيرة التي يشرب منها، والغصن الذي يقف عنده ليغني ذاته قبل أن يعود إلى العالم البعيد الذي أتى منه.
***
عندما تفوق آدم على الملائكة، ومَنح المسميّات أسماءها، منحه الله حواء؛ فحرّضته على المعرفة – أي على الحرية – ولولاها لظل أسير جنة الجبر، ولم يكابدا معا من أجل خلود الاختيار.. تلك هي القصة بتمامها.
***
أنا السفينة التي أودعها الله سره البهي، وأنا التراب الذي نفضته الحقائق فبكى، فأشفق السر من بكائه، فاهتزت السفينة، فربّت عليها الماء بقوة السر الأعظم.. نحن كلٌ مطمئن.
***
كلما تذكرت وضوئي القديم.. البعيد، لم أجد الكون إلا محض قطرة ماء تعلقت بطرف أصبعي وتوشك أن تزول، تفرّق كلي بين غناء الجميلات، احتفظت لقبر أمي بنقطة من دمى؛ ليتعرّف رائحةَ قلبي حين كان يركض في رحمها المقدّس.
***
جميلة، واحدة، ظنت أنها قادرة على جمع كل العطر في زجاجة على نيّة أن ترشه على ذكرى آدم وهو يجتاز باب الجنة خارجا لصهد قلبها المنقسم.
***
النورس الذي عاد ليس هو النورس الذي مر بك ذاهبا؛ ذلك لأنك لم تعط جناحَه بصمة قلبك فتميّزه.
***
عندما يقتسم عاشقان جملة واحدة، كأنهما يقتسمان رغيف خبز خرج من الفرن توًا.. يقتسمان طعمه وسخونته ورائحته وصوت قمحه، ويشطران استدارته الكونية، وتلتئم الدائرة فيهما وبهما التئاما مذهلا في توحدهما.. كل قمح حقول الأرض والسماء ينهض، وتهس السنابل بهجةً وكبرياءً.
***
كُن لها لا لذاتك، تصبح لك لا لذاتها.. وتنسكبان ملكوتا بديعا فَذّا يندهش له الكون،
فلا تنشغل ذاتكما الملكوت باندهاش الأكوان.. يا لرهف الميزان!
عندما أموت، لن يكون رمادي لغير صفحة وجه ماء أبي الجنوبي المقدّس، يا أبي حابي الجميل الكُلِّى القداسة، لا تسلم من رمادي شيئا لتراب الأرض إلا عبر مائك الأطهر، ينساب إليه برقّة وحكمة، وأنا فيه، فلا أتوجَّع، هو ذا يا أبي لو سمحت.
***
عندما يحين أوان تناسخي، سألح في أن أكون من النحل؛ لأعيد كل العسل إلى كل الزهور، وأدلها إلى بيتها، ربما أبقِي على بعض الشمع، وأسأله أن يضيء غرفتها.

صلاح الراوي أكاديمي وكاتب وشاعر مصري، ولد في محافظة قنا – مصر عام ١٩٤٦، حصل على ليسانس الآداب العربية عام 1972 ثم درجة الماجستير في الأدب العربي عام 1981. والدكتوراه في الأدب الشعبي من جامعة القاهرة عام 1988. وهو أحد أبرز المتخصصين في الأدب الشعبي وعلم الفولكلور وسوسيولوجيا الفولكلور، ومجال الفنون الحركية الشعبية. له إسهامات عدة في مجال التراث الشعبي والفلكلور، وقام بالتدريس بمعاهد «الفنون الشعبية، والفنون المسرحية، والموسيقى العربية، السينما، الباليه». وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في تخصصات الأدب الشعبي، والدراما الشعبية، والرسـوم المتحركة، والموسيقى والغناء، والنقد. أصدر العديد من الدراسات النقدية حول الأدب الشعبي من بينها «الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة» و«الشعر البدوي في مصر»، ومن الدواوين الشعرية ديوان «بعدين». كما حصل على العديد من الجـوائز والتكريمات.