قراءة في لوحة «منظر في طرقات القرية» لسعيد الصدر

قراءة في لوحة «منظر في طرقات القرية» لسعيد الصدر

ياسر جاد 

اللوحة: «منظر في طرقات القرية» للفنان المصري سعيد الصدر زيت على توال 49×69 سم

ما إن يذكر الراحل العبقري شيخ الخزافين وساحر اﻵنية الفنان سعيد الصدر، حتى تقفز إلى أذهاننا أوانيه وخزفياته، رحلته الطويلة في دروب التجريب وإبداعه في فن الخزف، بصمته التي يصعب محوها أو طمس ملامحها.. فسعيد الصدر واحد ممن أحيوا فن الخزف في العصر الحديث، وتركوا على حواف رقعته علامات تدل على مرورهم، ولكن يأتي عمله التصويري بمثابة تلك المفاجآت جيدة الوقع علينا كمتلقين ومتذوقين؛ فالرجل مارس تجربة التصوير في بداياته بالتزامن مع عشقه لممارسة فن الخزف. 

ويأتي عمله الذي أسميته «منظر في باحة القرية» كواحد من تلك الأعمال التي تحمل أهمية كبيرة، ودليلا لا يقبل الشك على أصالة هذا الفنان الكبير، وكذلك علامة من علامات إبداعه ونبوغه الفني، على الرغم من كونه نموذجا من نماذج أعماله القليلة والنادرة التي نستطيع الوصول إليها في ممارسته لفن التصوير الزيتي، إلا أن العمل يعد واحدا من أعمال التصوير ذات المستوى الراقي، وينتمى بمستواه إلى صنف اﻷعمال التصويرية ذات العيار الثقيل، بل وترقى إلى الوقوف بجانب أعمال العديد من أساطين فن التصوير الزيتي كالرائع يوسف كامل وحسني البناني وكامل مصطفى وغيرهم من مبدعين هذا اللون الفني المميز.

والذين تناولوا تلك الموضوعات التي تعكس انطباعاتهم عن الريف المصري بشكل عام، بل عكس العمل أيضا رفعة المستوى والمهارة التي كانت عليها أنامل شيخ الخزافين وساحر الآنية الراحل الكبير سعيد الصدر في ممارسة فن التصوير باقتدار هؤلاء العظام. وكذلك ما للفنان سعيد الصدر من رؤية في اختيار المشهد وأبعاده وكذلك زاوية المنظور التي انتقاها بشكل يعكس شمولية نظرته وبراعته في اختيار المشهد من زاوية عينه التي سجلته، إذ أنه ذهب بموقعه إلى تلك البقعة المقابلة للمشهد، والتي مكنته من وضع المشهد أسفل راحة عينه ليوجد وضعية مريحة ومتوازنة بين هاتين النقطتين المتمثلتين في مسطح المشهد ورقعة لوحة التسجيل. 

وقد جذبتني إلى المشهد عوامل عدة، واستوقفتني أمامه، إذ اعتبرته واحدا من ذخائرنا الفنية والذي يقع بين براثن أتربة اﻷقبية ويحرم منه ومن أمثاله طلاب الفن ومتذوقيه، كما أعتبره واحدا من النماذج التي اتخذت من تجريد العناصر من تفاصيلها ما يعكس انطباع الفنان ورؤيته ووجهة نظره في مشهد ما حرك ملكاته وموهبته. وعكس قدر مستواه، فالعمل على قدر بساطة حلوله في ظاهره. إلا أنه يحمل قدرا كبيرا من العمق والثقل، سواء على مستوى اختيار البقعة التي صممت بواسطة منطقية استغلال أهل القرية لتلك البقعة، وكذلك المساحات وعناصر المشهد القابلة للتغير، أو سواء على مستوى التقنية واللون وحلولهما، والتي أعتقد أنهما أكثر عوامل الجذب في هذا العمل الرصين. 

وقد يذهب خيالي إلى مدى تلك الحالة من الاستمتاع التي شعر بها سعيد الصدر أثناء تنفيذ العمل، والذي يقع في انطباعي أنه جاء على جلسة واحدة قصرت أو طالت، كما جاء أسلوبه في تنفيذ العمل مانحا له تلك المساحة من الحرية في الحلول، وكذلك شعوره باختلافه ومغايرته عن أقرانه.

واللوحة تمثل تلك الباحة الواسعة التي تحظى بها معظم القرى والتي تحدها من جانبين مصفوفة من البيوت الريفية المبنية بالطوب اللبن والمسقوفة بما يشبه أعواد الذرة الجافة وحطب القطن وقش الأرز وما إلى ذلك من مواد يستغلها المجتمع الريفي ويوظفها في عمارته البسيطة، وتقع في يمين اللوحة تلك الشجرة الكبيرة والتي تقتطع ما يقارب ثلث المشهد من جهة اليسار، وتمثل الجانب الأيسر لتلك الباحة التي أوجد فيها سعيد الصدر دراما عمله، والتي تمثل جانبا من الحياة الاجتماعية للقرية ونشاط البشر فيها. وقد وزع سعيد الصدر عناصر الدراما الخاصة به والتي تمثلت ف وجود عشرة أشخاص واثنان من الحمر الأهلية محملان بما يشبه نوعا من المحاصيل. وقد أوجد سعيد الصدر شخوص مشهده في ثلاث تجمعات متساوية الأعداد إلا من التجمع الذي يسوق الحمير فقد ذات بوجود امرأة عن هذان التجمعان في يمين اللوحة والذى مثل أحدهما ثلاثة من النسوة يقمن بإعداد ما تحمله الحمير.. واﻵخر وهو ما يمثل ثلاثة شخوص مترجلين فيما يشبه اتجاههم نحو صفوف بيوت القرية. 

ويقع في ثلث اللوحة اﻷعلى صف من البيوت يتخللهم ما يوحى ببناية مسجد. وتصبغ منازل هذا الصف من البيوت بتلك الألوان الصريحة والبسيطة والتي تصادفنا في كثير من القرى. ونجدها في المناسبات الريفية كالزواج والحج وما إلى ذلك من صور التعبير البسيطة التي يتميز بها المجتمع الريفي في صعيد مصر وريف دلتاها.

أما عن اللون فقد أتت اللوحة بانطباع ينم عن تلك الحالة من النقاء الممزوج بالطزاجة، ولم تصل إلى حد الصراخ اللوني، أي انها لم تفلت لونيا من الرائع سعيد الصدر ولم تنجح ألوانه الساخنة من التفاف عليه وإغرائه. إلا ان سمتها الرئيسية كانت فريسة لتلك الحالة من البهجة. وعكست الألوان كذلك ما في عقل سعيد الصدر ونفسه من انطباع عن نقاء الحياة ونضارتها. ولكن أكثر ما لفت انتباهي هي تلك المعادلة اللونية التي استعرضها المبدع سعيد الصدر في تناوله لذلك اللون الذي صبغ به تلك الشجرة الكبيرة في يسار اللوحة. ذلك اللون الذي عادل به العمل لونيا. فقد تناول أوراق تلك الشجرة بلون فيروزي يميل إلى الزرقة أكثر منه إلى الاخضرار. ليوجد ذلك التعادل والموازنة مع تلك الطبقة الخلفية والتي تظهر في أعلى اللوحة والتي تمثل ما يظهر من زرقة السماء من خلال تشابك بعض تلك الأشجار التي تقف بين عيني المبدع سعيد الصدر ورؤية الأفق باتساعه. لقد أوجد سعيد الصدر تلك المعادلة برشاقة مصور متمرس ومحترف. يملك كما متراكما من خبرات حلول اللون. 

أما تلك التقنية التي نفذ بها العمل، فهي أكثر عوامل الجذب لتلك اللوحة التي تعكس حس الرائع سعيد الصدر بدلالات ضربات فرشاته، والتي وظفها بصورة مرادفة لتلك المظهرات التي تلعب دورا في إلمام أعيننا بجو المشهد وأبعاده. بل وبتحديد منظوره، كما لها ذلك الدور الهام في إيجاد تلك المناسيب ودرجات التباين في اﻷبعاد والعلاقات بين عناصر العمل، وإن كان الفنان سعيد الصدر لم يهتم بالتعامل تقنيا مع شخوص المشهد وحيواناته نفس الاهتمام الذي تعامل به مع أبنيته وعناصره النباتية، وربما يكون لديه ما يبرر تلك المفارقة. أو أنه كان بصدد حالة من حالات الانفعال بمجمل المشهد من شجر وحجر وطبيعة ساحرة تميزت بها المجتمعات الريفية. 

واللوحة هي نموذج من نماذج التجريد. ويستطيع القارئ أن يقوم بتجربة رائعة ليحصل من خلال هذا العمل على أكثر من مجرد لوحة. فلو قمنا بممارسة تجربة الشباك الورقي وقمنا بتمريرها على كامل العمل فأجزم بأنه سيحصل على عدد كبير من أعمال التجريد الرائعة، وقد لعبت الملامس في عمل الفنان الكبير سعيد الصدر دورا كبيرا أشعرني بمدى دسامة السطح ومدى تلك الجرأة والتمكن اللتان كان عليهما سعيد الصدر، لقد استطاعت الملامس أن تساهم بدور كبير في تحديد الكتل والأحجام وتقدير المسافات بين عناصر اللوحة. كما أن أجمل ما فيها أنها جاءت محملة بانفعالاته وغير مصطنعة. كما أنها جاءت بضربات فرشاة مباشرة وليس عن طريق البناء المنظم والمعد مسبقا.. واللوحة موقعة باسم «الصدر» في أسفل يمين العمل. 

وأجدني محظوظا أن قمت بافتتاح هذه الحلقات بتلك اللوحة النادرة الهامة التي تعد بمثابة محاضرة في ممارسة ما أسميه «اسكتش العمل الزيتي» والذي يحمل بخلاف جمال مشهدها، صدق مبدعها وطزاجة انفعاله بمثير الحس لديه، وأجد أن ذلك العمل سوف يأخذنا بشكل مباشر إلى قضية هامة وسؤال مباشر: كيف تنزوي مثل تلك اللوحة وغيرها من أعمال هؤلاء الكبار في قبو ذو قضبان يسمونه «المخزن»؟ وتبقى أهميتها لا تتعدى كونها عهدة أحد الموظفين أو أمناء المتاحف، ولا تكون في صدر العرض المتحفي الحديث كنموذج تعليمي للأجيال؟ فمثل تلك اﻷعمال لا توضع بمقام يليق بقيمتها ويتسق مع تاريخها. 

ربما كنت محظوظا أن طالعت العمل الأصلي. ولكنى أبيت أن استمتع به وحدي، وارتأيت أن أشارككم إياه، فتحية إلى هذا المبدع الكبير والرائع والعبقري، الذي أمتعنى بمثل ذلك عمل تعلمت منه الكثير، وأوجد لدى أجوبة عديدة لأسئلة طالما هاجمت معلوماتي الفقيرة.. تحية إلى مبدع من مبدعي مصر، وتحية إلى عمل يستحق أن نرفع له القبعات.. تحية إلى الساحر «سعيد الصدر». 


سعيد حامد الصدر (1909 – 1986) فنان تشكيلي مصري ولد في القاهرة لعائلة فلسطينية، يعد أحد أبرز فناني الخزف في القرن العشرين، ويلقب بـ «شيخ الخزافين» وبـ «ساحر الأواني»، حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1979. أسس عام 1940 متحف الفن التطبيقي بكلية الفنون التطبيقية بالقاهرة، كما أسس قسم الخزف فيها. تولى منصب عميد كلية الفنون التطبيقية بالقاهرة خلال الفترة من عام 1967 وحتى عام 1969. مثل مصر في العديد من المؤتمرات والمنظمات الدولية، كما مثل مصر في الأكاديمية الدولية لفن الخزف في جنيف بسويسرا. له مؤلفاته في مجال الفنون والخزف، منها: «الخزف والأشغال اليدوية» 1950 – «مدينة الفخار» 1960. «الخزف والاشتراكية» 1962 – «مائة سؤال وإجاباتها عن الخزف» 1968 – «الألوان المعدنية في العصر الإسلامي» 1976 – «خزفيات الفسطاط» باللغة الإنجليزية. توفي في 16 يونيو 1986.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s