أيمن جبر
اللوحة: الفنان الروسي مارك شاجال
لا يملك الإنسان سوى حياة واحدة على الأرض، ومع ذلك؛ أكثر وأرخص السلع التي يتم إنفاقها وتداولها هي الإنسان، أصبح الإنسان سلعة، سواء كان؛ طوعا أو قهرا، بدافع نبيل أو وضيع.
يُباع الإنسان من أجل؛ المال… السلطة… المصلحة… الشعارات… الشهوة.
صور الإنسان السلعة لا تعد ولا تحصى، ولهذا وجب التنبيه كي نتوقف عن الوقوع في الفخ.
هناك قضية شهيرة في أمريكا تسمى “فورد بينتو”، حدثت في سبعينيات القرن العشرين، عندما أقبل غالب الأمريكيين على شراء سيارة “فورد بينتو”، بالسيارة عيب كارثي ومميت، كان خزان الوقود في الخلف بدون حماية، فإذا صُدمت من الخلف تنفجر السيارة ويُقتل من بداخلها، ومن ينجو من الموت يصاب بعاهة جسدية أو يُبتلى بجروح خطيرة.
تكررت الحوادث وزاد عدد الضحايا، تم رفع قضايا عديدة على شركة فورد، بعد تحقيق طويل ودقيق؛ تبين أن شركة “فورد” كانت تعلم بهذا العيب الخطير! وأنها أجرت دراسة سرية للتكاليف والخسائر، انتهت إلى هذا التقرير:
تحصين خزان الوقود كحماية لمنع الانفجار يتكلف “11” دولارا للسيارة، عدد السيارات التي ستحصن على نفقة فورد “12.5” مليون سيارة، التكلفة الإجمالية على فورد “137” مليون دولار.
ثم في المقابل؛ تم حساب ما غرمته الشركة بسبب هذا العيب.
“200” ألف دولار تعويض لكل حالة وفاة، وعددهم “***” حالة.
“67” ألف دولار تعويض لكل حالة إصابة، وعددهم “****” حالة.
“50” ألف دولار تكلفة إصلاح عدد 2000 سيارة.
فكان المجموع هو “49.5” مليون دولار!
بهذا تمثل الغرامة تقريبا “ثلث” تكاليف الإصلاح، فكان الخيار والقرار؛ عدم تحصين السيارات، واختيار تحمل التكلفة الأقل ماليا!
وهي تعريض العملاء للهلاك والمعاناة، فتجاهلت حياة الإنسان وصحته ومدى فداحة ما يتعرض له ولم تنظر للإنسان كقيمة مطلقة، بل نظرت إليه كسلعة مقابل ثمنها بالدولار.
في الستينيات من القرن الماضي بأمريكا، في إحدى كليات البنات الشهيرة، كانت إحدى السيدات العجائز المحافظات مسؤولة في الكلية، وكانت تعترض على أن يبيت الأولاد مع البنات في السكن الجامعي، كان دافعها للرفض دينيا وأخلاقيا، فكان النقاش في مجلس إدارة الكلية هو؛ كيف لأمريكا الحديثة العلمانية أن يعوقها سبب ديني في هذا العصر الحديث؟
تسبب هذا التناقض في حرج كبير فأرادوا أن يخرجوا منه بتبرير مادي؛ نظروا إلى أن هذا الشاب الذي يبيت يُكلف الجامعة تكاليف زائدة مثل؛ اضطراره للاستحمام فيستهلك مزيدا من الماء الساخن، وتضطر الكلية لتغيير الملاءات وهذا أيضا مُكلف، وبهذه الطريقة قاموا بحساب التكاليف، ثم أصدروا قانونا شديد الغرابة؛ أنه لا يجوز أن يبيت الشاب أكثر من ثلاثة أيام في الأسبوع كضيف!، وأن عليه الالتزام بدفع خمسين سنتا عن كل ليلة، هكذا خرجوا من المأزق بتحويل القيمة الأخلاقية إلى قيمة مادية.
في صباح اليوم التالي كتبت الصحف الشهيرة في عنوانها الرئيسي:
بنات كلية (***) بخمسين سنتا في الليلة!——
أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، في الفترة من عام (1861 إلى 1865)، قامت الحكومة بفرض التجنيد الإلزامي، لكن أعطت رخصة لمن يرفض الاشتراك في الحرب الأهلية؛ أن يوظف بدلا منه شخصا يقاتل بدلا عنه؛ ويعطيه الأجر حسب سعر السوق، انتشر وقتها إعلانات في الصحف تعرض كمثال: 500 دولار أو 1000 دولار لمن يحارب بدلا عن فلان، يقال إن “أندرو كارنيكي” وقتها – وكان من أكبر أثرياء أمريكا- تم تجنيده، فاستأجر أمريكيا بثمن أقل كثيرا مما يُنفقه على سجائره الفاخرة!
في السبعينيات حدث انفتاح استيرادي في مصر، ولم يكن بضوابط ولا بهدفية، انفتاح وفقط، فأحدث هزة في قِيم المجتمع المصري، ووقتها انتشرت ظواهر الإنسان السلعة، نشأ في طبقة رجال الأعمال الجُدد من يستورد أطعمة فاسدة ومنتهية الصلاحية ليأكلها المصريون، ويتفاخر بأنه يساهم في الأمن الغذائي باستيراد أطعمة وبيعها رخيصة الثمن، وانتشر الغش في مواد البناء، فكانت ظاهرة سقوط المباني الجديدة على أصحابها، وهذه أمثلة عالجتها السينما المصرية وقتها بأمانة، والظواهر كثيرة لتحويل الإنسان إلى سلعة مهدرة.
عَبر التاريخ يستشهد الإنسان من أجل مسميات مثل:
الدين؛ كلهم يموت في سبيل الدين، وما أكثر الأديان على الأرض! وكل الأديان صحيحة في نظر معتنقيها، وكلهم يُمني نفسه بالخلود في الجِنان، فأغلب المتقاتلين يَطلبون سلعة واحدة ويظنون أنها لديهم وحدهم، بينما الآخرون فإلى الجحيم.
“الوطن والدولة والمَلك”، عندما يموت الناس من أجل كل هؤلاء، من يضمن أن الذين سيعيشون بعدهم، والذين ضحوا بأرواحهم من أجلهم، سينعمون بالإصلاح أو تحقق الشعار النبيل الذي ماتوا في سبيله؟
الذي يحدث غالبا هو أن من يجني الثمار هم فئة تُسيطر وتَغنم، ثم تستمر معاناة الإنسان من جديد.
“الشعارات النبيلة”، يموت تحت رايتها الآلاف وربما الملايين، ولكن عبر التاريخ، يقفز الأوغاد ليهنأوا بالنصر الذي ثمنه حياة النبلاء، ثم يقود هؤلاء الأوغاد مرحلة جديدة من شقاء شعوبهم.
حان الوقت لأن يتريث الإنسان في قراره، ولا يندفع إلى أن يكون فداء لشعارات يرتديها النفعيون كقناع، أو يكون فداء لما لا يضمن خلوصه لمن ضحى من أجلهم.
الإنسان قيمة يجب ألا تُنتهك، كان الاستعباد هو أقسى وسيلة لانتهاك الإنسان عبر الزمان، وأخيرا تم إلغاء الرق، ونضج الإنسان وأدرك قيمته، ولكن سيظل دائما معرضا لرياح الانتهاك والاستغلال بصور تتحول وتتلون دوما، وهذه مجرد أمثلة لوسائل التلون التي تتحايل دوما لوضع الإنسان في ميزان الثمن لا القيمة.
وهذه هي ساقية الحياة وأيضا هي القصة المكررة ودرس التاريخ، فليحذر الإنسان أن يكون سلعة تباع أو تنتهك أو تهدر.