اللوحة: الفنانة الأميركية جوانا بارنوم
كلما مررت جواره وسألت عنه، أجد إجابة جاهزة تندفع بوجهي كشظايا لوح زجاجي تهشّم فجأة، كل مرّة يباغتني الرد، كأنما أسمعه للمرة الأولى: “يضع سره في أضعف خلقه”، للرجل كرامات لا يراها إلاّ من أخلص نيّته و صفا قلبه. فأتعجّب، سرعان ما تنقشع حيرتي، يركبني عناد، يلفُّني إصرار أكبر في معرفة حكاية هذا الوليّ.
يقع مقام “العبيط” بمنطقة على شكل مثلث تتوسط ثلاثة أحياء قديمة، هي”الشيخ حسن، جنينة الحصري، الحواتم”، منطقة تتفرع كشجرة لطرق وشوارع طويلة تنتهي جميعها بقلب المدينة الصغيرة، أشبه بأذرع وهمية يمدّها ذلك المبارك لتحتوي السيَّارة والهائمين على وجوههم الباحثين عن لقمة عيش.
ما زاد من قلقي، تهرّب الجميع من ارواء شغفي، إطفاء نار تستعر بأعماقي من سنوات عن هذا الشيخ، فلم يسمحوا أبدً بطرح سؤال وحيد تردد بداخلي، كما لم تسنح ليّ فرصه التلويح به: لماذا سُمي صاحب المقام بهذا الاسم “العبيط”؟
أهو كنية؟ أم وصفًا لحالة اعترته ببواكير حياته أم علّة وُلد بها؟!، فكان الصمت دومًا مقابلًا طبيعيًا للسؤال، لم أجد غير عتاب في العيون، بوادر سخط و غضب كتوم في النفوس، فاعتصمت بالصمت تقية، ومن قبل تقديرًا لمكانة الرجل بين الأهل.
“المقام”، بناء مربع الشكل صغير من الطوب اللبن، تكاد تحتويه بعينيك، بداخله قبر يعلو الأرض بارتفاع متر تقريبًا، يستقر عليه شاهد على هيئة رأس ملفوفة بعمامة خضراء اللون، يلتصق به من ناحية يمين الداخل للمقام، صندوق نذور من الحديد الصدئ يتدلّى منه قفل كبير..
ليلة الأربعاء من كل أسبوع، يفد الناس للمقام من أطراف المدينة، من ربوع القرى البعيدة، تُشعل شموع صغيرة بيضاء، تحيل الظلمة لبقعة تتلألأ، حينها تسكن الريح احترامًا حتى ينتهي الطقس.
لقد أقمت فترة طويلة جوار “العبيط”، و مقامه، عليّ أفوز بما يبلّ الريق و يسد جوعي لأي معلومات عن تلك الحكاية..
لكنها كلمة من هنا، أو عبارة مبتورة من هناك، أجمعها وأعيد صياغتها فلا أخرج بجملة مفيدة لعقلي، كما استدرجت الشيوخ، أصغيت لقصص أمي وخالاتي وجدتي عنه، تصنّت لحكايات العجائز، جميعهم اتفقوا على أن المقام موجود منذ الأزل بمدينتنا، لم يغادر موقعه، لم تتغير هيئته، وأن” العبيط”، روحه ترفّ حولنا، تباركنا، هو كخاتم “النسر”، لا تكتسب الورقة الرسمية حُجتها من دونه.