قراءة في قصة «رماد امرأة» لرانيا بخاري 

قراءة في قصة «رماد امرأة» لرانيا بخاري 

حفناوي سيد 

اللوحة: الفنانة السودانية دعاء الحاج

اختارت القاصة السودانية الأستاذة رانيا بخاري شهر يناير لتنطلق في سرد أحداث قصتها «رماد امرأة» قصة امرأة مكافحة، لا تعترف بالمستحيل، حيث يبدو من قراءة مجريات القصة منذ الوهلة الأولى أن الكاتبة تريد أن تدور أحداث الحكاية في فصل الشتاء البارد، ربما «وهذا مجرد احتمال فقط» لأن البيئة التي عاشت بها كانت بيئة حارة وجد قاسية، ويبدو من قصتها أن الشمس كانت تحرمها من الراحة والبرودة التي ظلت تحلم بها طول العمر، نعمة الظلال الوارفة التي كانت تعيشها في أحلامها الممنوعة، ورونق الرطوبة التي ظلت تراها في مدن صنعتها لنفسها لتتجول فيها بكل حرية، حين يحملها الشوق إلى عالمها الخاص، أو حديقتها السرية الصغيرة، ولأن لكل امرأة حديقتها السرية الساحرة، فإن للقاصة السودانية رانيا بخاري كذلك حديقتها الخاصة بها وفاكهتها الممنوعة وغلالها غير المباحة وحكاياتها غير المتاحة!

كل هذه العوالم القريبة من الشتاء الساكن في ذاتها التي كانت تكتب بها رماد امرأة، ظل يشكل الحلم الذي كانت تخفيه عنا جميعا، كونها امرأة فقدت الثقة في العالم المحيط بها، فأنشأت حديقتها السرية التي تمنع فيها الشمس، وتختفي فيها الفيافي القاحلة، ولعل قاصتنا تعيش جنة غرائبية كتلك التي عاشها غابريال جارسيا ماركيز في قصته دماء على الثلج وهي تكتب قصتها عن بائعة الشاي المنسية!

كل هذا يبقى مجرد تأويلات لمعالم قصة بائعات الشاي في الخرطوم للمبدعة رانية بخاري، مجرد تخمينات وتأويلات تستبق قراءة القصة قبل التوغل في تفاصيلها والبحث عن خفاياها وابعادها الحقيقة.

هل كانت القاصة تحاول أن تخفي جراحها عن الشمس، خشية ان تفلت منها وتخرج إلى النور، فتتعرف على الشمس وتراقص أشعتها، وتدور معها كزهرة عباد الشمس وتعانقها طويلا، فتسرق منها الدفء الذي بخلدها ويكتبها مع الخالدين، فتحفظ جرحها خبايا خارطة السماء، وأسرارها العميقة، هل كانت تريد اخفاء جراحها عن النور لتظل بعيدة عن الشمس، وبعيدة عن الناس، ومخفية عن كل العالم؟

حكاية بائعات الشاي

لقد استندت القاصة إلى وقائع حقيقية لإنجاز قصتها هذه، والتي هي في الواقع حكاية بائعات الشاي المؤلمة جدا، لأنه حين يتم استهلاك الشاي في الساحات العمومية، عندما لا يتم تناوله براحة في المنزل، يتم ذلك بشكل أساسي في زوايا الشوارع وتحت الأشجار، حيث تقيم النساء أكشاكا ومواقد بدائية، أمام خزانة معدنية تحتوي على معدات طبخ الشاي، وأوعية كبيرة من الماء، حيث يجلس العملاء على مقاعد معدنية بسيطة متصلة بخيوط ملونة. 

غالبًا ما تبقى بائعات الشاي في مكان واحد لساعات طويلة في اليوم، مع أخذ استراحة عرضية للذهاب إلى أقرب متجر لشراء المزيد من مادة الشاي أو أوراق النعناع، في ساحة جاكسون التي اختارتها الكاتبة لسرد قصتها، يجتمع الطلاب وسائقو سيارات الأجرة والمسافرون معًا لتبادل الحديث، بينما يستمتعون بمشروبهم بطريقة خاصة، وتخبرنا القاصة بانه بالنسبة للسودانيين في حرارة شمس الظهيرة، لا يوجد شيء أكثر إنعاشًا من كوب من الشاي الساخن الحلو، على الرغم من أنه قد يبدو غير معقول، فهذه وصفة يبدو أنها تعمل بشكل جيد بالنسبة للسودانيين.

ولساحة جاكسون عند الكاتبة رانيا بخاري رمزية كبيرة، ففيها تتجمع بائعات الشاي اللواتي هن في كثير من الأحيان من الأسر المهاجرة إلى عاصمة السودان، هذه الساحة هي المكان الذي تلتقي فيه عادة بائعات الشاي، ساحة شهيرة في منطقة جامعة الخرطوم.. تحت ظل شجرة، تجدهن خجولات بعض الشيء، ملفوفات في حجاب متعدد الألوان، نساء كادحات، يجلسن طول النهار خلف أكواب زجاجية مرصوفة، وعاء من الماء المغلي، وملاعق من السكر، نساء هادئات، تعتنين بأواني الطهي الصغيرة الخاصة بهن لسنوات عديدة، كل يوم من الساعة الخامسة صباحًا حتى غروب الشمس.. بعضهن يقلن لمن يسألهن:

«لم أتمكن من الدراسة، ولإطعام أسرتي وتعليم أطفالي، بدأت في القيام بهذه المهمة.. ما أكسبه هنا يسمح لي بشراء الطعام والشراب وبعض الأدوية، لكن هذا كل شيء، لا يمكنني وضع أي شيء جانبًا».

تستند الكاتبة على حكاية بائعة شاي شهيرة بالسودان تدعى #عوادي_محمود_كوكو التي أسست أول اتحاد ل #بائعات_الشاي في #السودان

بائعات الشاي ينتشرن في الخرطوم في كل شارع، عند كل مفترق طرق.. تستند الكاتبة رانيا بخاري على قصة واقعية، بائعة شاي شهيرة بالسودان تدعى عوادي محمود كوكو، أسست هذه البائعة الأيقونة أول اتحاد لبائعات الشاي في السودان، وهي أشهر بائعة شاي في البلد، كافحت لسنوات عديدة من أجل حقوق تجار الشوارع، وحصلت على «جائزة المرأة الشجاعة»، وهي جائزة تقديراً لشجاعتها والتزامها، أصبحت هذه المناسبة معروفة على نطاق واسع لدى السودانيين، وأسست أول اتحاد لبائعات الشاي:

«نريد أن نكون قادرين على كسب دخل جيد من عملنا، لأننا نريد أن نعلّم أطفالنا جيدًا وأن نكون قادرين على ارتداء الملابس وتناول الطعام بشكل لائق».

 تكافح السيدة عوادي لتحسين الظروف المعيشية لآلاف بائعات الشاي، تدربهن على القيام بأشياء بالإضافة إلى أعمال الشاي الخاصة، فيمكن لهن أيضًا بيع الكعك الصغير، أو خبز المعجنات لكسب المزيد من المال، بائعات الشاي من النساء المستضعفات، وعلى المجتمع أن يدعمهن.. تعمل هؤلاء النساء بمفردهن في الخارج، أحيانًا ما يستهجن المجتمع السوداني المحافظ تصرفهن ويتعرضن لمضايقات من المارة، عانت الكثيرات من الظلم وتعرضن لشتم ومنهن من ينظر إليهن بازدراء، لكنهن قاتلن وانتصرن!

 قالت احدى بائعات الشاي لصديقتها مازحة: أدخلوا النساء الي بيوتهن وارفعوا كراسي الشاي المشبوهة، هذا ما ختم به إمام وخطيب المسجد الكبير بالخرطوم خطبة الجمعة أمس تحريضاً على بائعات الشاي، وبالحرف أردف الامام قائلاً، كل الشوارع أصبحت كراسي ونساء يبعن الشاي، وأردف: هذا منظر لا يليق ببلد كالسودان فيه كل الخيرات!

سمعت قهقهتهن في محطة جاكسون ونظرت كل امرأة إلى صديقتها ضاحكة، مازحة، وانتهت الجلسة بحديث في السر عن غلاء المعيشة، وظروف المرأة والحياة الصعبة في عاصمة بلاد النيل الازرق!

بين ليل الطغاة وليل التعساء

تقول الكاتبة في مستهل قصتها: إنه الأول من شهر يناير، الريح تصفر صفيراً شديداً يعبث بالأبواب، لكن، هل كانت الريح تزعج زينب بطلة القصة؟ هل كانت تخاف أن تخرجها من سباتها العميق؟

يبدو أن الريح كانت ستحرك العالم الساكن الذي كان يسكنها ويحيط بها كبائعة شاي، فخافت أن تتحول سكينتها إلى ضجيج يفسد عليها أحلامها الوردية!

لكن، هل كان لاوعي الكاتبة وهي تكتب قصتها يرفض أثناء كتابتها للقصة السقوط في هوة الكسل والخمول؟ ولماذا تفضل الكاتبة أن يكون الليل متقطعا؟ هل كانت الريح تلعب بسدوله وهو يرخيها على قلمها؟

لماذا كانت تعيش – رانيا – الليل في قصتها على مراحل مختلفة؟ هل كانت تريد ان تجعل القارئ أحداث قصتها منقطعة الأواصل، لتستطيع أن تتنفس بين كل مرحلة وأخرى؟ يبدو أن «نوم زينب لا يمكنه أن يمنعها من الذهاب إلى العمل»، فهي تلعن الكسل، وتلعن النوم، وتلعن الفقر، ولا تسهب في النعاس، ولا تعرف الأحلام الزائفة أبدا!

 كاتبتنا تتنقل من الكلام عن صفير الرياح وظلام الليل وسحر الفجر الحالم، إلى الحديث عن أذان الفجر، معلنة عن نهاية الأحلام الجميلة، ومعلنة عن استئناف النشاط والرجوع إلى العمل اليومي في كنف يوم جديد وتحت شمس جديدة!

 «أذان الفجر ألجم دويّ الريح» هكذا تتسلل كاتبتنا رانيا بخاري بين ظلام الليل الحالك ونور الفجر الخافت لتقدم لنا السيدة زينب، وهي تنقلب على شقِّها الأيسر لتفتح عينيها على أمرين أحلاهما مر، صعوبة اليقظة، وصعوبة الرجوع إلى طبيعة نشاطها الذي تمارسه كل يوم، في بلد شمسه ليست ككل شموس العالم، وليله ليس كما ليالي العالم، بلد يتميز بطيبة سكانه وكثرة خيراته وخيباته، لكن العيش فيه حلو رغم مرارته، عيش يبدو صعبا للغاية أحيانا، وظروف الحياة فيه قد تكون أحيانا قاسية جدا!

#رانيا_بخاري تمتلك تراكمات كبيرة بذاكرتها ولها شغف بمطالعة روايات #البؤساء، وتعرف الفرق بين ليل #الطغاة وليل التعساء

تستمر كاتبتنا في الاشتغال على سمفونيات تموجات الليل وتقلبات النوم وعسر اليقظة، لتقدم لنا بطلتها وهي في فراشها، تحسم أمرها، وتلعن إبليس: «الله يلعنك يا إبليس» قبل الذهاب إلى عملها لتبيع الشاي في المحطة.

انها تريد البوح بكل خفايا زينب بائعة الشاي، فالنوم والسعادة والنعاس والغفلة والسنة في قصتها: رماد امرأة، ترمز كلها إلى هشاشتها وضعفها كامرأة كادحة ترغمها الحياة على مغادرة فراشها وهجران نومها للالتحاق بعملها ليلا، صورة مؤلمة لربة بيت مكافحة، تحاول أن تؤمن قوت اسرتها وتسعى لتوفير لقمة عيشها وتضمن حياتها الكريمة، وهي كاتبة تمتلك تراكمات كبيرة بذاكرتها ولها شغف كبير بمطالعة روايات البؤساء، ونجد آثار ذلك في القصة واضحا جدا، فهي تعرف الفرق بين ليل الطغاة وليل التعساء.. من هذه المعالم البسيطة في القصة تتضح مدلولات القصة التي اختارت لها رانيا بخاري عنوانا بسيطا وحالما رماد امرأة، قصة تحملنا في جولة استطلاعية إلى بائعات الشاي اللواتي يحترقن من أجل لقمة العيش، حكاية ترسم بمرارة صورا مؤلمة لنساء اقترفن ذنب رفض الحياة الكئيبة، وتمادين في رفض الكسل والنوم والراحة والطمأنينة ومعاشرة الأحلام اللذيذة، في ليالي الشتاء الحالمة! وهذه بعض صور نضال بائعة الشاي وهي تحرم نفسها من متعة النوم، ومتعة الراحة في قصة رماد امرأة:

«هكذا تمتمت زينب، ومن ثم توضأت لصلاة الفجر، وبعد أداء صلاتها، بدأت بتجهيز أدوات عملها استعداداً ليوم جديد.. حملتها متوجهة إلى مقر عملها بميدان جاكسون بالخرطوم»

يبدو من هذه المونولوج البسيط بين زينب وبين نفسها أن بطلة القصة، امرأة واقعية بمسؤوليتها نحو أسرتها، هي امرأة قوية تستطيع قطع انسياب أحلامها لتتوجه إلى العمل في أواخر الليل، رغم مخاطر الطريق، وصعوبة المسالك، تخرج زينب ليلا وتتجه لمحطة جاكسون، بائعة شاي كهذه تمتلك القدرة على نكران النوم تعي جيدا ما يعنيه صوت المؤذن وتعي جيدا ما يعنيه بقوله الصلاة خير من النوم، تتخلى عن دفء الفراش وتلتحق بمقر عملها بعد ان تتوضأ وتجهز أدوات عملها وتتجه إلى ميدان جاكسون.. امرأة كهذه، لا يمكن أن نراها إلا بطلة تلهم الكتاب، فيخلدون وقتها في قصص جميلة تروي نضالها وتكتب اسمها بحروف من ذهب لأنها امرأة ترفض النوم والكسل، ترفض الذل وتكسب قوتها من التعب، مما يدل على شجاعتها وبشاعة الزمن الذي كانت تعيش فيه.

الرماد تحت الشاي.. رماد امرأة

في قصة رماد امرأة، نكتشف كيف تحدد -رانيا- فضاءات قصتها، فاسم الميدان الذي تقع فيه أحداث القصة وأين تتجمع بائعات الشاي ليلا، لتحضير المشروب وبيعه للمارة، لعل كل من تعرف على ساحة جاكسون Jacksonليس مثل الذي اعتاد على سماع اسم Jackson، فالاسم الاول هو لساحة شهيرة بعاصمة النيل الازرق كما جاء في القصة، ساحة تشتهر بنساء يبعن الشاي على ناصية الطريق، اما الاسم الثاني فلرجل عاش البذخ والترف حتى الموت، ولعل الكاتبة ستقدم صور المرأة المكافحة لترسمها وتضعها على ساحة جاكسون لتبني وتركب المشهد الذي تريده، لتعيش مع بطلات قصتها الصورة التي تبحث عنها فترسخها في مخيلتها بالقوة!

هكذا كانت تبدو لي صورة ساحة جاكسون في قصة صديقتنا رانيا بخاري، وهكذا ظننت نفسي وجدت في قراءتي هذه منفذا للدخول إلى خزانة الصور التي كانت تأخذ منه مبدعتنا السودانية قصتها رماد امرأة، ولعلها وفقت في اختياره دون غيره من العناوين، لان الشاي والرماد في القصة يتواجدان على نفس المسافة،

 رماد امرأة، عنوان استفزني منذ الوهلة الأولى، وها انا أعود اليه من جديد لأكتشف ان رماد امرأة هو رماد تحت الشاي، تحضره امرأة تحترق، امرأة تضحي براحتها كي لا تحترق بالفقر، امرأة تقوم بعمل شاق وتقضي نصف الليل وشطر اليوم كله، في محطة المسافرين تحترق بين الزبائن واللصوص والباعة والمارة، صورة رائعة لامرأة سودانية شريفة مكافحة، أما بقية مقاطع القصة المتعاقبة فهي تتعاقب كتعاقب الليل الاسود المخيف، لترسم لي صورة ساحة جاكسون، وصورة محطة الحافلات أين تلتقي بائعات الشاي وتتبادلن أطراف الحديث!

يلهج لسانها بـ: الحمد الله الذي أماتنا ثم أحيانا أصبحنا وأصبح الملك لله، وكأني بالقاصة رانية البخاري تريد ان تذكرنا بأن بائعات الشاي في الخرطوم يحمدن الله كثيرا حين يكتشفن بأنهن لم يتحولن إلى نساء من رماد وان الحياة تعود إليهن مع كل فجر يوم جديد بعد قضاء يوم كامل تحت شمس محطة جاكسون الحارقة، وليلة كاملة بين زيف احضان الأحلام المستحيلة!

«وقفت في الشارع العام تنتظر مواصلات الخرطوم، تتلفت يمنة ويسرة والشارع يكاد يخلو إلا من بعض الرجال القادمين من صلاة الفجر»

في هذه الصورة نجد خلو الشوارع من النساء ليلا وهذا شيء مألوف ومعتاد، لأن المرأة ممنوعة تقريبا من المشاركة في صناعة الحياة، وقد تكون إشارة إلى ان الرجل له سلطة كبيرة على المرأة، وأنها لا تجد مجالا لمنافسته في كل مجالات الحياة، وبعد انتظار قارب نصف الساعة، لاحت على البعد عربة ترسل إضاءة طويلة أمامها.. وتستمر الكاتبة في اخراج المرأة من ظلمة القهر، لتسلط النور على مشاكلها كامرأة عاملة في وسط ذكوري، فتخرج ازماتها وهمومها من العتمة إلى واجهة الحقيقة، ليكتشفها العالم!

«فالوقت مازال مبكراً، والطريق مظلم، مدت يدها وأوقفت العربة، استقرت في أحد الكراسي».. تتسارع الأحداث، تدخل زينب في سيارة الأجرة، وتتحرك العربة، لكنها ترجع إلى خيالها، الى محطة زواجها، ثم وفاة زوجها وضياعه دون أي خبر عن غيابه، وسنها التي وصلت إلى الثلاثين، وما إن تحركت العربة حتى سرحت بخيالها مسترجعة محطات من حياتها مع كل محطة من محطات الطريق الذي تسير عليه المركبة منذ ليلة زواجها إلى اليوم الذي غاب فيه زوجها بحثاً عن لقمة عيش ضن بها بلده، وها هي ذي السنوات قد بلغت الثلاثين دون خبر يفيد بحياته أو مماته! تقف المركبة مع كل محطة تنزل ذاك أو تلك، وهي مستغرقة في شريط حياتها الذي قطعه صياح الكمساري.. تستفيق البطلة من سباتها وتعود إلى العربة التي تقلها إلى مكان عملتها «النازل ميدان جاكسون».. 

«لملمت ذكراها مع عدتها ونزلت متجهة إلى حيث تعمل في ظل شجرة نيم كبيرة «شجرة التنين».. أخرجت مستلزمات عمل الشاي، نفضت من «الكانون» رماد الأمس، ومن ثم وضعت حبات الفحم وأشعلت النار ممسكة بالهبابة تهب النار، وظلت تهب وتهب إلى أن أصبح الجمر أحمر اللون وضعت الكافتيرا، وبعد ثوانٍ فار الماء»

تطنب الكاتبة في وصف تحضير الشاي، وطقوس تحضيره، فتقدم لقرائها كل تقاليد حرفة صناعة المشروب المفضل للسودانيين، وتحدث قراءها عن عادات بلدها للتعريف بها والترويج لها بطريقة جد رائعة، فالصناعة السياحية لبلد بحجم السودان تسحر الكثير من عشاق القصص العربية، وتصنف الموروث الثقافي السوداني كمكسب تراثي عريق، يجب الحفاظ عليه، وهذه خلفية القصة الحقيقية، التي تطرحها القاصة في قصتها: 

«بدأ الزبائن يتوافدون أفراداً وجماعات لاحتساء الشاي، هذا يريده سادة، وآخر يريده كشري، وآخر بفضله ممزوجاً بحليب، الناس أمزجة ورغبات».

المرأة وآلة القمع الذكورية

تلج الكاتبة في مرحلة جديدة من قصتها للحديث عن مزاج الرجل السوداني المتنوع والغني بالعادات والتقاليد المختلفة، فشاي الانجليز بات معروفا لدى السودانيين كما هو الآن معروف في لندن وكبريات العواصم العالمية:

«تعلمت زينب في ظل تلك الشجرة الكثير وتحملت الكثير، وباتت تعرف المزاجي والمستعجل والمتعالي والمعقد والسارق، كل تلك الأنماط تعاملت معها».

تعود الكاتبة لتذكرنا بمعاناة المرأة السودانية ومكابدتها للمتاعب اليومية من أجل لقمة العيش، فتقدم لنا صورة حزينة وموجعة ليوميات نساء الشاي السوداني في ساحة جاكسون الشهيرة، ساحة تمتزح فيها أمزجة سكان السودان وأذواقهم المختلفة: 

«انتهت فترة الصباح وفر الزبائن إلى أعمالهم، نادت زينب زميلاتها ودعتْهُنَّ لتناول المتبقي من الحليب، جئنها كل واحدة منهن تحمل بنبرها وتحلّقنَ حول شجرة زينب كعصافير تشقشق عند الصباح معلنة ابتداء يوم جديد، تجاذبن أطراف الحديث، تحدثن عن غلاء الأسعار والمعيشة وغيرها من الموضوعات، ثم انصرفت كل واحدة إلى ظل شجرتها، وآذنت الشمس بالمغيب معلنة انتهاء يوم».

تصور الكاتبة ما تعيشه الأسر المعوزة اليوم في #السودان من واقع مرير ناتج عن #الفقر المدقع الذي قلب أحوال الناس رأسا على عقب بتسارع مذهل

برعت الكاتبة رانيا بخاري من خلال قصتها في تصوير تسارع اﻷحداث وتغير اﻷحوال في قصتها، حيث تصف واقع نساء متقاربات في السن يعشن في مدينة تقطن بها عائلات ميسورة تمتلك كل وسائل الراحة، وبسبب تيسر حالها المادي تعيش الراحة في بيوت آمنة من كل خوف، بيوت فيها ما لذ وطاب من مأكل ومشرب، وهذا يدل على ان لليسر مكانة في مجتمعاتنا، فالرجل يقدم جهده لخدمة ونهضة أسرته، فتحس هذه الأخيرة بدينه في رقبتها فتهتم به أيما اهتمام، تصور القصة عائلات تعاني من شظف العيش، منها من خرجت النساء فيها للشارع بحثا عن لقمة العيش، وتلفت الكاتبة نظر القارئ لما تعيشه الأسر المعوزة اليوم من واقع مرير ناتج عن الفقر المدقع الذي قلب أحوال الناس رأسا على عقب بتسارع مذهل، فالسكان اﻵمنون الميسرة أرزاقهم والمستورة أحوالهم، أضحوا بعد ذهاب أرزاقهم لاجئين تستجدي نساؤهم الكفاف من بيع الشاي في محطات الحافلات والساحات العامة، بعد أن فقدت هذه الأسر كل أموالها، وسكن الفقر بيوتها وضاع منها أمنها وامانها! تنتهي القصة بلقاء حول أكواب الحليب، وحديث عن غلاء المعيشة، لتتركنا صاحبة قصة رماد امرأة في عتمة المساء، في محطة الشاي السوداني اللذيذ.

قصة جميلة كجمال نساء السودان المكافحات، اللاتي رفضن الخنوع والخضوع للفقر والتسول، ورفعن التحدي وواجهن الواقع المر، من أجل الفوز بحياة كريمة! إنها صورة رائعة أخرى لتحدي المرأة والصبر والصمود النسوي في وجه آلة القمع الذكورية!

تحية لهذه المبدعة السودانية الواعدة، وتحية لكل محطات قصتها المرتبة ترتيبا زمنيا بديعا.. وأشيد فيما أشيد ببراعتها في اختيار اسم ساحة جاكسون ودلالتها الجميلة المدهشة، فكل ازمنة القصة وابطالها وفضاءاتها كانت في تناغم وانسجام كبيرين.

رماد امرأة – رانيا بخاري


رانيا بخاري كاتبة وصحفية سودانية
حفناوي سيد كاتب وناقد جزائري

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s