بثينة الدسوقي
اللوحة: كاريكاتير وداعاً عبد الخالق للفنان المصري أحمد قاعود (عن اليوم السابع)
لا أعرف عن المخرج علي عبد الخالق الذي توفاه الله منذ أيام قليلة غير أشهر أفلامه: العار، الكيف، جري الوحوش، البيضة والحجر، وإعدام ميت! هل تصدق أن هذه الروائع من إخراج شخص واحد؟ إنها أفلام كفيلة بأن تشعرك بالسعادة بمجرد ذكر أسمائها، وهي أفلام طغى فيها أسماء النجوم الأبطال على اسم المخرج بمرور الزمن، ولكنه المخرج علي عبد الخالق بالتأكيد، رحمه الله رحمة واسعة.
والحقيقة أن ابتعاده عن العمل والأضواء جعلني أبحث في تواريخ أعماله فوجدت أجملها على الإطلاق تم في فترة زمنية قصيرة، عشرة أو خمسة عشرة عاماً فقط، وكلها في منتصف عمره، ومنتصف حياته المهنية، قبلها البدايات التي لا تكاد تعرفها، وبعدها أفلام ومسلسلات لم تحقق نجاحاً يذكر، قائمة من الأفلام غير المعروفة قبل بداية شهرته، وفي المنتصف تمامًا تقبع أشهر أعماله التي قد يكون بعضها مُجاريًا لسياق عصر الثمانينيات والتسعينات، وأزعم أنه نجا بشكل كبير من السينما التجارية أو سينما المقاولات التي كانت سائدة في هذه الفترة، ربما لأنه أجاد بشكل كبير اختيار النصوص التي تمكّن من خلالها إيصال الفكرة بأكثر الأشكال إبداعًا. وهناك قائمة أخرى قبل النهاية تتضمن أفلاما ومسلسلات لا تكاد تصدق أنها تحمل اسمه! ليس لمدى سوئها، ولكن لأنها غير معروفة بالمرة وكأنها هواء!
قليلون هم المبدعون الذين يبدأون وينتهون بنفس معدلات النجاح، فهناك عوامل كثيرة تتداخل وقد يكون منها ما قاله علي عبد الخالق في شرح أسباب ابتعاده: «لا أستطيع التوافق مع البيئة الحالية. وهو ليس عيبًا، فالإصرار على مجرد الوجود أكثر ضررًا».
هو إذن قرار الانسحاب – الاعتزال – الذي يجب أن يكون دقيقاً جداً لتخرج من الحياة المهنية تاركًا أثرًا طيبًا، ولا أقول ملموسًا، لأن هناك بالفعل ما أنجزته خلال رحلتك، لكني أعني ما سيذكره الناس عنك، فإن كان هذا الملموس عظيمًا سيغفر لك ما دونه من عثرات وستقدر المحاولات، وإن كان هشًا؛ فليس هناك غير الأثر الأخير الذي إن كان باهتًا فعلى الذكرى السلام.
أظن أن لكل انسان فترة ذهبية في حياته تكون في الأغلب منتصف عمره، وهناك دومًا لكل قاعدة استثناء، في هذه الفترة يعمل المرء بمنتهى الكفاءة، يبدع إن كان فناناً، يحقق نجاحًا أو ثراءً، ثم يصاب المنحنى بالثبات والجمود إن لم يبدأ في الهبوط، المرء لا يرى حياته أبدًا وهو في خضم صراعاته واختياراته، لكن من حوله هم من يلاحظون! والمبدعون هم من تتجلّى في حيواتهم تلك الفترات؛ لأن أعمالهم ملموسة للغير بشكل كبير.
لو أن الأمر كان واضحًا من قبل البدايات؛ تهمس الآن، لو أني كنت أعرف مُسبقًا أو لو أني عرفت بأمر الفرصة أنها فرصة في وقت أبكر، لو أنني تعلمت كثيرًا حين كان النقش على الحجر سهلًا أو أنني أحسنت اختياراتي في البدايات، ولكن هذا كله لا يحدث، دعني أؤكد لك أن من يفهمون مبكرًا قِلة، ومن يُحسنون الاختيارات الأولى نُدرة، نحن عادة نتخبط إذا لم يصادفنا حظ جارف، ويلاحظ الآخرون في النهاية مشوارنا كله، يقرأونه في سطور مختزلة، أو يسمعونه من صديق، يتذكرونه في لحظات النهاية.
ويبقى مشوار الحياة في حقيقته لكل إنسان، هو مجرد زيارة عابرة، حيث يكون خجولاً في البداية، ثم يتغلب على خجله ورهبته ويندمج مع الآخرين وربما يتألق، ويمسك زمام الحديث والضحكات، ثم يدرك أنه يجب أن يكون ضيفاً خفيفاً فيهدأ شيئاً فشيئاً، ثم يلقي التحية ويذهب.