أيمن جبر
اللوحة: الفنان المصري ياسين محمد
في أول زيارة للسجن بعد الحكم النهائي على “أحمد”، كان في انتظاره والده وأخاه وزوجته وطفله الرضيع.
بعد أن فرغ الأب والأخ من العناق وتبادل كلمات التعاطف والمواساة، تركاه مع زوجته وطفله وانتحيا جانبا، نظر “أحمد” إلى وجهها الشاحب والذي لم يذق طعم النوم، وإلى عينيها اللتان انتفختا واحمرتا من البكاء المتواصل، ابتسم متكلفا ونظر إليها بارتباك وهو يضم طفله بحنان واشتياق، ثم رده إليها ودعاها للجلوس على الأرض بجانبه.
– من أين أتيت بتلك القسوة المضاعفة؟ ألم يكن يكفي أن أتحمل الحكم عليك عشر سنوات، ثم تُطلق في وجهي قذيفة أخرى فتطلقني؟
– وهل كنت تتخيلي حبيبتي أنني أقدر على أن أظلمك أو أن أقسو عليك؟ وهل أصبح لدي طاقة للقسوة بعد كل ما حدث؟
– لماذا طلقتني؟
– الحكيم من أتعظ بتجارب غيره، وما أنا إلا فرد في طابور من ملايين السجناء الذين سبقوني ووقعوا في هذا الفخ، لا أريد أن أسقط مثلهم في أخطائهم وتُنسيني مأساتي الأبرياء الذين عَلقوا بي، لن أكون أنانيا.
– لا أفهمك، ما علاقة هذا بطلاقك لي!
– أنت تعرفين أن الحكم ليس فقط بعشر سنوات، فالسنتان قبل صدور الحكم، لم يتم احتسابهما، والحكم بلا تخفيف، فلا يوجد أمل في الخروج في نصف المدة لحسن السير والسلوك، والسنة تحسب أثنى عشر شهرا وليس تسعا كما في السجون المدنية، وبهذا لو خرجت حيا فسأخرج بعد غيابي عنك أثني عشر عاما!! هل تستطيعي تخيل ما بداخل تلك السنين من معاناة وحرمان وغم وألم؟
هل يمكن أن أخرج حيا بعد هذا النفق الطويل؟ وهل سأخرج كما أنا؟ وهل سأجدك كما أنت؟ وهل يتبقى منا شيء؟ عشرات المتغيرات من الممكن أن تحدث، فلتحدث ونحن بلا رباط، فما ذنبك أن أظل متشبثا بيدك وأغرقك معي!
– ولكنه قدر الله، فلماذا تقاومه! سأنتظرك.
– حبيبتي، لقد حَكم القاضي علي أن أستقل قطارا لرحلة العذاب والعجز والحبس، ولم يولي انتباه إلى طفل وزوجة مرتبطان بي، لو أراد العدل والحِكمة لكان قرار الطلاق هو الذي يُصدره وليس أنا.
– ولكنه ليس من حقه ولا سلطته!
– حبيبتي، لو انطلق القطار وانت معي؛ سوف تعيشين زهرة عمرك في الشقاء، ستعيشين مأساة تُكدر عليك الدنيا، ستكون السنوات القادمة سلسلة من البكاء والأحلام اليائسة وزيارات متوالية لا تتوقف عن تجديد الأحزان والحسرات، ستكونين متألمة في كل حال، ولهذا كان لا بد من أن أؤلمك مرة واحدة، وبعدها لا ألم، لأنني سأغادر بقطاري وحدي وأبتعد، بينما تستمرين في حياتك حرة أنت وولدي.
– وهل تتخيل أنني سأقبل قرارك! سوف أنتظرك.
– دعينا نترك هذا للمستقبل.
– هل تترك شمس قلبك وظله؟
ارتعش ثم اطرق رأسه ليخفي ألما عميقا.
– لقد كدت أنسى اسمي لكثرة نداءك لي بشمس، وسمعنا معا الأغنية آلاف المرات وانت تنظر إلي في غرام، وأنا لا أفلح في تحمل نظراتك لي فأخفض عيني خجلا! هل يصدق الناس بعد أن علموا قصة حبنا وحسدونا عليها، أنك تطلقني؟
– لو فهموا ما هو الحب لفهموا السر وعذروني.
– إنني أتألم بما فوق الطاقة، ارحمني وتراجع عن قرارك. تراجع حبيبي عن قرارك! .. تراجع!
– هل تعلمين أن هذا القرار سيجعل حياتي في السجن محتملة لأني سأتولى أمر نفسي وحدها؟ لن يكون سجنا مضاعفا، هل تتخيلي أن أصعب ما في السجن هو تفكيري في آلامك ومعاناتك، أنت لا ذنب لك، ولا حكمة من سجنك معي معنويا، ستمر الأيام وستتفرغي لطفلنا، وكل ما أطلبه منك حين تتزوجي أن يكون أبا عطوفا لابني وإن تَعسر هذا فاستعيني بأبي وأمي.
– ماذا تقول؟ هل سترسم لي حياة مع غيرك؟
– فقط تذكري كلامي واحفظيه ولن نستعجل الأيام، فأنا لم أقل لك هذا مستعجلا إلا لأني لن أراك كثيرا في المستقبل.
– ومن يمنعني من زيارتك؟
ابتسم وهز كتفه وأبدى قلة الحيلة.
– أستطيع التحمل فلماذا تتسرع؟
– أعرف أنك ستتحملين وستُخلصين لي، ولكن لن أجعلك تتعرضي لتلك المحنة، لقد حررتك.. حبيبتي.. السجن موت.. سأموت عنك وعن العالم عشر سنوات.. وهل تُدفن الزوجة مع الزوج إن سبقها للموت؟.. هل أدخلك معي في قبري؟.. حين يموت الزوج؛ تصبح الزوجة أرملة، ولا كبير فرق بين الأرملة والمطلقة، وحين يموت الزوج؛ تذهب الزوجة أحيانا لتقرأ له الفاتحة على قبره، حسنا، اقرأي الفاتحة كلما تذكرتيني وامنحيني دعاءك.
– ولكنك بعد عشر سنوات ستعود للحياة!
– هل تصلح الكعكة حين تنزع منها طبقة الكريمة والفاكهة التي تزينها!، هذه السنوات هي زهرة الشباب والحياة، وهي كريمة كعكة حياتنا، وقد نزعت مني ولن أسمح أن تنزع منك ومن ابني، ثم من يضمن الحياة يوما واحدا؟ نحن نتصرف فيما يظهر لنا، والأقدار حسمت أمرها وسوف ترينا قصتنا في الدنيا.
ساد بينهما صمت حائر للحظات، ثم قال:
– هل الولد بصحة جيدة؟
– أعلم أنني لن أستسلم لجنونك، سأظل زوجتك بدون تلك الورقة، سأظل أزورك وأنتظرك وأعد الأيام حتى يجتمع شملنا، وتفرح بولدك ونهنأ ببقية حياتنا.
احمرت عيناه وتضخمت وهو يتساءل بصوت مختنق؛
– هل الولد بصحة جيدة؟
– أتشفق علي أن أتحمل سجنك وبعدك، ولا تنظر لإلقائي وابنك في معترك الحياة دون نقطة ارتكاز، بدونك، لا أقدر، يجب أن تُمحى كل ذاكرتي كي أصلح لحياة أخرى، بدونك كيف تطيب الحياة؟ كيف بعد أن ذقت النبل والحب منك أن أرضى بغيرك.
وانهارت في البكاء.. وانهار معها وهما يحتضنان معا الطفل… ونظر الجميع إليهما، وهرع الأب والأخ في جزع إليهما وبدون سؤال انهمر الجميع في البكاء.
وأوشكت الزيارة على الانتهاء ولم يسكن قلبها ولم تفلح في اقناعه.
نظرت إليه وكلها أمل في تراجعه ولم تسعفها طاقتها المستنزفة لتتكلم.
فاستجمع هو كل طاقته وسألها:
– هل الولد بصحة جيدة؟
– نعم، هو يأكل جيدا وبصحة ولله الحمد.
مرت لحظات صمت طويلة وهي تنظر إليه متوسلة، بينما ينظر هو لولده.
نادى الحارس أن انتهت الزيارة.
– حبيبتي .. وداعا.