ياسر جاد
اللوحة زيت على توال مقاس 270م × 135م (عام 1964م)
يأتي «الزار» كطقسة شعبية يأتيها بعض العامة من الناس على تلك الخلفية المبهمة والغيبية فهي واحدة من الطقوس التي تأخذ فضولنا وتقطع به المسافات المتفاوتة كل حسب ثقافته ومرجعيته ومدى إعمال عقله في تناول ماهية تلك الطقسة، إنها أحد الطقوس التي تستند على صنف الغيب الوسيط وهو غيب الحاضر فالعديد منا يعرف الغيب بأنه فقط ذلك الصنف الذي سيأتي مستقبلا، بينما للغيب صنوف ثلاثة رئيسية:
الصنف اﻷول: وهو غيب ما قد مضى وفات ومر، وهو غيب الماضي، وهو أحد الصنوف التي يمكن اﻹلمام بها وبمعرفتها بوسائل الاجتهاد والبحث والتتبع والاطلاع والتنقيح.
الصنف الثاني: غيب الحاضر الذي يقع في زمن المضارعة، وهو الغيب الوسيط الذي يحدث في غفلة منا، إما ببعد المكان أو ستر الفعل عن إلمام حواسنا به وهو أيضا من الصنف الذي يمكن الاطلاع عليه ومعرفته من خلال محاولات إزالة ما يعوق ويقف بيننا وبين إلمامنا به.
الصنف الثالث: هو غيب المستقبل واﻵتي والمنتظر وهو الصنف اﻹلهي الذي لا يمكن الاطلاع عليه ومعرفة تفاصيله مهما أتخذ من تدابير وخطط فهو صنف احتفظ به الله لذاته، وقد اختلفت اﻵراء في تحديد نشأة تلك الطقسة، إلا أن هناك إجماع على اعتقاد عدد ليس بالقليل فيها بالوجود والحدوث وكذلك في جدواها وفائدتها رغم إنكار العلم والدين لها جملة وتفصيلا ولكن يظل العقل الجمعي في كثير من الطبقات المجتمعية يدعم مثل تلك الطقوس، بل ويؤكد مردودها وإثمار زهرها ولكن ظلت تلك الطقسة أمرا واقعا في مجتمعاتنا حتى وقت قريب ويقرها الكثير من شرائح المجتمع وإن أظهروا في العلن كفرهم بها وأجدني أراها أحد نماذج الماورائيات في الموروث الشعبي كما أجد التوفيق محالفا لتعبير الفنان الكبير د صبري منصور في توصيفها بأنها نوع من الاحتفالات الكونية التي تجمع عالمان مختلفان: عالما ظاهرا ملموسا ويمثله المريض والوسيط الكودية، وعالما يرى الكثيرون إختباءه وراء سواتر وحواجز تعجز عن بلوغها حواس العامة عالم اﻷرواح، وقد تحولت حفلات الزار من طقسة جادة ذات مفهوم ومغزى وهدف في السابق من وجهة نظر العديد من الناس، إلى مجرد حالة من حالات اﻷداء الحركي الراقص اﻷقرب إلى الحالة الاحتفالية السطحية والمقامة للتسلية كنوع من الفلكلور الشعبي.
لوحة الزار وكلاسيكيات التصوير
وتأتى لوحة الزار للفنان القدير د صبري منصور واحدة من كلاسيكيات التصوير المصري الحديث والمعاصر تلك اللوحة التي أنتجها وأبدع لمساتها في عام 1964 كمتمم لمتطلبات التخرج وذلك أثناء اجتيازه لمرحلة التخرج في كلية الفنون الجميلة التي حظى فيها بكونه قد تتلمذ على يد أحد أساطين التصوير وهو الفنان الكبير الراحل عبد الهادي الجزار والذى أشار عليه بتناول موضوع الزار ، بعد أن اقترح عليه الطالب صبري منصور عدة موضوعات، إلا أن ثقة الطالب صبري منصور في رجاحة رأى المدرس عبد الهادي الجزار قد طغت على كل الاقتراحات التي قدمها منصور وبدأ الفنان صبري منصور في حل تلك المعضلة التي وجد نفسه فيها من جراء اقتراح الراحل القدير عبد الهادي الجزار لتناول موضوع الزار كمشروع لتخرج تلميذه، فاﻹشكالية أبدا لم تكن في التقنية أو في حرفية الرسم والتصوير، فالجميع كانوا يشهدون للطالب صبري منصور بمهارته وموهبته، ويكفيه شهادة العملاق الرائع عبد الهادى الجزار وشهادة الفنان الكبير الراحل حامد ندا الذى كان يدرس حينها في الفنون الجميلة باﻹسكندرية، ولكنه كان يزور كلية الفنون الجميلة بالقاهرة بانتظام ويتابع أعمال طلابها، فقد انطوت المعضلة على طريقة التناول والمفهوم وحلول الصياغة لموضوع الزار من جوانب مفاهيمية مركبة ومعقدة وما لها من شق أسطوري وجانب يغوص في ماورائيات تلك الطقسة الشعبية وقد سبق تحضيره لسطح اللوحة ذلك التجهيز لمفهومها واستيعابه فبدء في مطالعة ما كتب عنها وما ذكر في أصولها تلك المطالعات التي لم تشف غلته في تكوين صورة دقيقة في مخيلته لتلك الحالة الملحمية لذلك الاحتفال وتلك الطقسة، فوجد نفسه مدفوعا بشغف لحضور تلك الحفلات الشعبية والاقتراب من شعائرها وتراتبية اﻷحداث فيها والوقوف على أبطالها وتكوين بناء درامي لتلك الملحمة في عقله، وقد حافظ على تلك الجلسات لعدد من المرات إلا أنه أراد الغوص فيها أكثر والخوض في مفهومها بصورة أعمق فخاض تجربة حضورها مدعيا العلة والمرض وأتاها كمريض يطلب الشفاء، وذلك حتى يلم بدراميتها من منظورين الأول هو منظور المشاهد والمتابع والباحث، والثاني وهو منظور أحد أبطالها وطالبي الشفاء والتداوي.
وقد استغرقت لوحة الزار في إنتاجها ما يقرب من اثني عشر أسبوعا أربعة أشهر، وقد صاغها الفنان صبري منصور من خلال وسائط التصوير الكلاسيكية، فخام اللوحة كان التوال القماش وألوانها من خامة اﻷلوان الزيتية وقد أوقعها الفنان صبري منصور في قياس مستعرض ليحقق فيها تلك الحالة البانورامية لكامل المشهد لتلك الطقسة، وأختار قياسها الذي جاء في عرض يوازى 270 مترا وإرتفاع يوازى 135 مترا، محققا بذلك نسبة ذهبية تتناغم مع ذلك المشهد المزدحم والدسم والمليء بالتعقيد والتفاصيل كما برع في اختيار زاوية عينه التي تعامل من خلالها مع وضعيات الشخوص وتراتبية وجودهم، ودرجات أهميتهم في تلك الطقسة وقد جائت تلك الزاوية موفقة بشكل كبير، وخادمة للعين في اﻹلمام بكافة تفاصيل المشهد دون إغفال أحد شعائره كما اوحت للمتلقى بأنه أمام تلك الشاشة الفضية المستعرضة التي يقابلها في دور العرض السينمائية.
توثيق لطقس شعبي
لقد أتى انجذابي نحو تلك اللوحة منذ أكثر من 10 سنوات عند رؤيتها ﻷول مرة في عرض ذاكرة فنان، والذى أقيم كعرض استيعادي ﻷعمال الفنان الكبير صبري منصور بقاعات العرض بقصر الفنون بأرض اﻷوبرا في مطلع هذا القرن، وقد وقع اختيارى عليها مستندا على ما لها لدى من تقدير على المستوى الشخصي، ولما تتناوله من طرح توثيقي لطقسة شعبية أخذت في اﻹندثار والاختفاء، نتيجة لنعت جانب كبير من شرائح المجتمع لها بالدجل والشعوذة كما أجد لمستواها الفني تلك الرشاقة التي يندر وجودها حاليا إلا لدى عدد قليل من فناني الواقعية، وكلما بدأت في الدخول إلى قراءة ذلك العمل أجدني أجتر هذا الشعور الذي سيطر علي عند رؤيتها ﻷول مرة منذ عشرة أعوام فقد وجدتني أرى فيها تلك اﻷنواع الثلاثة لمفهوم الطاقة التي تكمن في البشر مجتمعة، فالبشر يمتلكون ثلاثة أصناف للطاقة:
الصنف اﻷول: الطاقة الروحية وهي الناتجة عن مسببات كالمرجعية الدينية أو العقائدية، وما لهما من قدسية في نفوس اﻷتباع والمريدين والطموح وما يفجره بالبشر من طاقات عقلية وروحية تدفعهم نحو بلوغ مالا يتخيلون هم أنفسهم بقدرتهم عليه إلخ.. من تلك المسببات لهذا الصنف من الطاقة التي تكون دائما أقرب إلى اﻹيجابية.
الصنف الثانى: وهو الطاقة الحركية اللإرادية التي تنتج عن أنين الغرائز وسطوتها وميكانيكية الجسد وذاتية حركته، وهي طاقة يمكن توجيه شحنتها والتحكم بها.
الصنف الثالث: وهو طاقة الاكتئاب والعلة التي تصيب النفس قبل أن تصيب الجسد وهذا الصنف هو جوهر هذا العمل الفني البديع «الزار» وطاقة الاكتئاب هي تلك الطاقة الكامنة في ظاهرها والمتأججة في باطنها، التي تتحين تلك الفرصة للإفلات خارج هذا الجسد، إما من خلال وسيط معالج يفتح لها ممرات آمنة للهروب من خلالها أو من خلال تصيد إحدى حالات الانفلات اﻹنساني سواء كان انفلاتا ناتجا عن سعادة أو ناتجا عن صدمة حزن.




استطاع الفنان صبري منصور إبداع ذلك العمل من خلال مفهوم الصياغة الخاص به فلم يلجأ إلى نقل صورة حرفية من أحد تلك الجلسات التي تابعها وحرص على حضورها بل صنع عمله وأثراه من خلال خيال وازن بين الجموح والترويض ولم يلجأ إلى تلك المسحات السيريالية التي قد تغري البعض وتدفعهم نحو إدخالها في العمل بل انتهج مفهوم الحذف واﻹضافة بحرفية وبراعة، وبما يتناسب مع بصمته الفنية ولمسته اﻹبداعية التي وازنت أيضا بين واقعية مشاهدة الحدث وبين ما رأى إدخاله من جماليات التكوين الخادم لتحقيق وجهة نظره في التناول، فأوجد العمل في حيز مكاني غير واقعى، ولكنه أوجده أيضا محققا لشروط الاستساغة البصرية، بل وربما يكون محققا لأمنيته في إيجاد ذلك البراح الممتد في عمق العمل وقد جاءت زاوية وقوفه الفرضية من المشهد في ذلك الجانب الخافت اﻹضاءة وكأنه أراد أن يصور لنا المشهد خلسة دون إزعاج وتشويش أبطاله، ليحقق لنا مصداقية الأداء لكامل أبطاله، وقد أوقع الفنان صبري منصور المشهد في تلك اللحظة الساخنة، التي تعج بالصخب الناتج عن قرع الدفوف متصيدا من تلك الدراما لحظة تعادل مرحلة العقدة في السياق الدرامي، وهى تلك اللحظة التي تصل فيها اﻹثارة إلى ذروتها وتعلو فيها صوتيات العمل من تمتمة وترنيم وإيقاع.
وقد أجاد الفنان صبري منصور في توزيع أدور أبطال مشهده التوثيقي لحلقة الزار ولم يترك ﻷحدهم أن ينتزع من اﻵخر أهمية وجوده في المشهد ولم يفلت منه منظور التناول الذي أعتبره من صنف التناولات ذات الشمولية في النظرة والمفهوم، فتقاسم البطولة في المشهد الكودية أو الوسيط المعالج وأتباعه، سواء من قارعي الطبول أو تلك السيدة في يمين اللوحة حاملة تلك اﻵلة الوترية البسيطة، التي تطلق نغما يعادل تلك اﻷصوات الصادرة من الصاجات التي يحملها الكودية، والكودية غالبا ما تكون من النساء، إلا أنه مثلها هنا أحد الرجال وهذا وارد في جلسات الزار، و العروسة وتمثلها هنا تلك الجالسة إلى يسار اللوحة في ثوب أبيض يوازى ثوب الزفاف والفتاة المعقودة وتمثلها تلك الجالسة في مشهد رمزي للتعري يحمل دلالة شارحة سيأتي تفصيلها، وجاءت باقي شخصيات المشهد إما من المعقودين بعلة وأتو للاستشفاء أو الاسترضاء، ويقع البقية في مدى ممتد ربما أراد الفنان صبري منصور أن يدلل من خلاله على مدى ما لطقسة الزار من شعبية في ذلك الوقت أو ليكسب المشهد تلك الخصوصية في التناول والصياغة.
و الكودية وهو ذلك الرجل المرتكز على ركبتيه يؤدى دور الوساطة ورافعا رأسه إلى اﻷعلى وكأنه يتمتم بالعزائم لاستحضار اﻷرواح والجان المسبب للعلة وينسدل شعره ويتدلى بطوله المعروف وتأتى يده المرفوعة ﻷعلى لتصفق بتلك اﻷطباق النحاسية، محدثا تلك المازورة اﻹيقاعية المتحكمة في اﻹيقاع والجالبة للأرواح وأيضا ليظهر سيطرته على الموقف مؤكدا أن له اليد العليا في مسألة الوساطة وإحداث الاسترضاء دون غيره تلك الوساطة التي تمكنه من الوصول إلى إزالة العلة من خلال الاسترضاء للأروح المتسببة فيها، وذلك إما بنحر بعض الطيور أو اﻷغنام أو تحقيق مطالبهم التي لا يستطيع غيره اﻹلمام بماهيتها وطريقة تحقيقها ويأتي زيه اﻷخضر مصدرا ما له من طاقات روحانية تمكنه من خوض تلك الوساطة ويتدلى منه تلك الخيوط المذهبة والشرائط المطرزة وعليه هذا الصديري اﻷحمر المميز له والذى يكون مزركشا بما يدلل على ريادته ومنزلته والذى يعبر عن رتبته وسط أتباعه من قارعي الطبول، والذين يرتدون صديري بلون مختلف أو بنفس اللون دون تلك اﻹكسسوارات.
التعبير عن الأداء الحركي
ويأتي المشهد ليصدر لنا انخراطه في جملة اﻵداء الحركي الخاصة به، والمقرونة بالعزائم التي تسترضى اﻷروح وتتسبب في معرفة مطالبهم والوصول معهم إلى الحل والذى ينحسر في مغادرة المريض، او في المهادنة والمصالحة في مقابل نحر بعض الطيور أو الحيوانات أو إطلاق أنواع من البخور، أو إيقاد الشموع إلخ من مطالب اﻷرواح والجان كما أتى أتباعه من قارعي الطبول منتشرين في المشهد بصورة تدل على سيطرتهم على أركانه، فنجدهم يتوزعون في كامل المشهد كنوع من تصدير اﻹيهام بتلك الدرجة من السيطرة من قبل الكودية وأعوانه وكذلك حتى يكون للدفوف تأثيرها على كل من في المشهد بنفس الدرجة وقوة الصوت وتماثلية اﻹيقاع وذلك لما للإيقاع من دور يؤدي إلى استمرارية الجملة الحركية كشعيرة هامة في تلك الطقسة واﻹيقاع في حد ذاته من المؤثرات الهامة في وجود العامة وهي مسببة للتحفيز ومنظمة للأداء ولها تأثيرها الإيجابي على استثارة الجموع ولا أدل على ذلك من وجودها في ملازمة الجيوش في الحروب فهي تصنع تحفيزا جمعيا في اتجاه واحد، وتصنع تناغما بين الجموع، ومنظما للحركة يتبعه الجميع، حتى هؤلاء الغير مدربين على نفس جملة الأداء الحركي.
وقد قام الفنان صبري منصور بمعالجة جانب أصحاب العلة وطالبي المداوة في نموذجين منفصلين في الحالة والتعبير والدلالة المستخلصة، ومتصلين من حيث الوجود في المشهد:
فالنموذج اﻷول: والذى تمثله العروسة وهى تلك الواقعة في أقصى يسار اللوحة، في حيز بطولي من كامل المشهد، ترتدى زيا موازيا لزى العرس مكتملا فمن الواضح والجلي أن جلسة الوساطة الزار قد ضربت ﻷجلها وتبدو ملامحها بأنها قد تخطت مرحلة الشباب بوقت ليس بالقصير وهنا عبر الفنان الكبير صبري منصور من خلال تلك الملامح وتعابيرها عن مسمى العروس في الزار فهي ليست بالضرورة عروس فعلية مقبلة على الزواج فمن الجائز انها قد تزوجت ولكنها قد أصابتها علة من أروح، أو مس من جان أو ما شابه وارتدائها لهذا الزى مقرونا بكامل زينتها وحليها ما هو إلا حالة تميزية لكونها بطلة الطقسة من أهل العلة وقد جاءت تعابير وجهها هادئة، وعبر الفنان صبري منصور عن رغبتها العلاجية بتلك العينان المغمضتان في استسلام وجاءت جلستها المعتدلة لتعبر عن تقديرها واحترامها لما يفعله الكودية لخاطرها من وساطة، ولا أدل على ذلك من تلك اليدين اللتان وضعتهما على فخذيها في استسلام وتسليم وثقة في هذا الوسيط.
أما النموذج الثاني: والذى تمثل في تلك الفتاة المتعرية والمتفجرة اﻷنوثة، والمتسقة جسديا بدرجة كبيرة مع معايير اﻷنثى المثيرة، فهي تقع في فهمى ممثلة إحدى الحاضرات من العذارى المعزوف عنهم من الرجال للزواج وكأنها بتجردها تعلن بأنها تمتلك كل ما يغرى أفضل الرجال، ربما من حسب أو من مقام مجتمع أو من مال ويسر حال، كما تدلل هيئتها وما تضعه من زينة وحلى ولكن ما بها من علة تسببها اﻷرواح أو عفاريت الجان عزف عنها طالبي الزواج وكأنها بجلستها التي تنم أنها أتت عقب فورة أداء حركي، تطلب العلاج أو الوساطة بالهدنة، حتى يتسنى لها أن تأخذ دورها في الزواج بعد استرضاء اﻷرواح أو استئذانهم في أمرها ولا أدعى أن يكون ذلك تفسيرا يعبر عن قصدية الفنان صبري منصور في وجودها على تلك الحالة، فهو وحده من يستطيع أن يفسر القصدية، إلا أنني لا يخامرني شك في كونها إحدى طالبات العلاج والوساطة، وذلك مما نجح الفنان صبري منصور في توجيه انطباعي نحو هذا التفسير وذلك من خلال تعابير وجهها وحالة اﻹجهاد النفسي الواضحة عليها فقد نجح الفنان صبري منصور بل وبرع في إقناع الجميع بأننا لسنا أمام حالة تعرى مبتذلة فرغم ما تمتلكه الفتاة من طغيان أنوثة وإغراء جسد إلا أن المتلقي يجد نفسه متأرجحا بين اﻹشفاق عليها وبين التعاطف معها ولمس مأساتها.
ثم نعرج في مشهدنا على هذا الجمع الذي يحيط بتلك اﻷشخاص الرئيسية بالمشهد وقد جاء بهم الفنان صبري منصور بما يتناسق مع ما للمشهد من جمع وإقبال وقد نجح في اﻹمساك بكثافة مشهده باقتدار، فلم يفرط في زيادتهم ولم يقلص وجودهم، وأوجد التنوع فيهم فتباينت مقاصدهم وأغراض وجودهم فكان منهم الفضولى والمتطلع والدرويش والمجذوب وصاحب العلة وغيرهم من أصحاب الاعتقاد في تلك الطقسة وقد استطاع ترصيع المشهد بهم في وعى تام ولم يلجأ إلى استخدام مفهوم السينوغرافيا ليؤكد واقعية المشهد المصطنع عن تبيت النية إنما أطلق لمساته في عمق اللوحة ليفسح لنفسه المدى في الخلفية، التي أتت للمتلقي بذلك البراح الذي يوحى بما لطقسة الزار وجلساته وحفلاته الكونية كما يصفها الفنان صبري منصور نفسه وما لهذه الطقسة من شعبية واعتقاد في نفوس عدد كبير من أهل وقته، وقد وجه المتلقى بذكاء نحو افتراض حجم هذا البراح خارج إطار اللوحة ونلحظ في عمق المشهد ذلك الرجل الجالس في استكانة وخشوع وتسليم أمام ما يشبه هذا المربوع الحجرى والذى كان يعد بقعة يترك عندها أهل العلة قرباتهم من نذور وذبائح وشموع تضاء لاسترضاء الأروح بقصدية فض اشتباكهم معهم، أو بقصدية المهادنة والوصول إلى اتفاق تصالح واسترضاء لدرء الشرور الحاصلة منهم وقد استغل الفنان الكبير صبري منصور تلك التفصيلية العميقة كنواة لعمله الرائع والموجود حاليا في متحف الفن المصري الحديث بأرض اﻷوبرا وهو أيضا واحدا من اﻷعمال الرصينة والثرية التي أعتبرها من كلاسيكيات مجموعة المتحف.
معالجة عنصر الإضاءة
ويبقى لنا في هذا العمل تلك المعالجة الرائعة لعنصر اﻹضاءة والجو اللوني العام للمشهد فمعالجته للإضاءة جاءت خادمة لمفهومه ووجهة نظره عن الزار فقد أتت اﻹضاءة في كامل العمل مجرد انعكاس واقع على جغرافية المشهد وشخوصه وأبطاله ولم يقترب الفنان صبري منصور من إشكالية إيضاح مصدر الضوء، وكأنه أراد أن يشارك في المشهد بدور الوسيط في إيجاد الضوء ومعرفة مصدره دون أن يكشف عن مسببه ومصدره وقد صنع ذلك الممر الضوئي الممتد من أقصى يمين المشهد وحتى أقصى يساره حيث تجلس عروس الزار كما لم يغفل هذا الوهج الواقع على ذلك المربوع الحجري في خلفية المشهد والرجل الذي يجلس أمامه وكأنه يوجه المتلقي إلى أهمية هذا المربوع كموطأ لشعيرة الذبح وتقديم القربات وأيقاد الشموع، أما اﻷجواء اللونية المسيطرة على عموم المشهد، فقد أتى اللون اﻷخضر في درجاته مسيطرا وطاغيا عليها، في دلالة جديدة صدرها لنا الفنان صبري منصور وعبر من خلالها عن إنعكاس الحالة الروحانية، التي غالبا ما نعبر عنها في الروايات الشعبية باللون اﻷخضر ووهجه المريح للعين والنفس تلك الدرجة اللونية ذات العلاقة الوثيقة بالغيبيات والروحانيات، كما أنها أحد تلك اﻷلوان المعبرة عن السكينة واﻹرتياح وبث شعور اﻷمن واﻷمان والراحة
إن هذا العمل الرصين والدسم والذى يلمع في مدارت الروعة لهو واحدا من مشروعات التخرج لطلبة الفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي وهو إن يدل على شيء فإنما يدل على ما كان عليه فن التصوير من رقى ورصانة، وما كان عليه طلاب الفنون الجميلة من موهبة لا تقتصر على الحرفية والتقنية، بل وتمتد إلى الفكر والمفاهيمية والعمق في أصول ومرجعيات موضوع الطرح وما كان عليه أساتذة الفنون الجميلة من موهبة فذة في توجيه طلابهم، واستخراج الدر المطموس في مواهبهم، وقد حظى الفنان الكبير صبري منصور بأن تتلمذ على يد واحد من الجهابذة كعبد الهادي الجزار، الفنان واﻹنسان والمفكر والمدرس والذى يعد واحدا من علامات وأساطين التشكيل المصري المعاصر فتحية إلى روحه وقامته وتحية إلى ضميره ومصداقيته وأستاذيته التي أفرزت أمثال الفنان صبري منصور.
ولا يبقى سوى أن أتوجه بخالص التحية والتقدير والامتنان للرائع والموهوب الفنان الكبير د صبري منصور على هذا العمل الفذ والنابض بروح مصر، والموثق لواحدة من موروثاتها الشعبية بهذا الحس وتلك الحساسية، وأشكر له إمتاعنا من خلال إشراكنا في حفلته الكونية الاستثنائية «الزار»، التي أتمنى أن أرها يوما تزين أحد متاحفنا ليتعلم منها القادم من اﻷجيال كيف يكون الفن واحترام دراسته وممارسته وتقديم طرحه.
صبري منصور فنان تشكيلي مصري، حصل على الأستاذية في الرسم من كلية الفنون الجميلة سان فرناندو بمدريد – إسبانيا، عضو نقابة الفنانين التشكيليين، شغل منصب عميد كلية الفنون الجميلة قسم التصوير بجامعة حلوان 1989- 1992، رئيس لجنة الفنون التشكيلية بالمجلس الأعلى للثقافة. أقام العديد من المعارض الخاصة وشارك في كثير من المعارض المشتركة في دول عربية وعالمية، كما نال عدداً من الجوائز منها جائزة الدولة التشجيعية في التصوير 1986. وجائزة الدولة التقديرية في الفنون 2017.

متميز أن يكون هذا الموضوع ضمن منشورات حانة الشعراء
إعجابإعجاب