مقطع فيديو

مقطع فيديو

محمود حمدون

اللوحة: الفنان الفرنسي ليون كومير

لا أرى حرجًا أن ألتقيه صباح كل يوم، يقف ينتظرني على مبعدة أمتار قليلة من ناصية بيتي، يتحرّى أن يقف في منطقة لا يراه فيها أحد وبخاصة من الأهل، أظنه يخشى عليّ قبل أن يخاف من الناس على نفسه، أعترف أن صداقة نشأت بيننا، يرتج قلبي بشدة إن غاب، يساورني القلق عليه، أيام الاجازات الرسمية، أُحرم من رؤيته، أتهيّب أن أخرج دون سبب في موعد العمل وقتها.

أذكر أن نظراتنا التقت دون تدبير، كنت بطريقي للعمل، بينما كان يأتي من الجهة المقابلة، ابتسمت له، لعلها أول مرة أن تضحك امرأة لغريب لا تعرفه، من عجب أنني لم أجفل من تصرفي معه، أقسم أنني أدركت أنه يعي تصرفي جيدًا، يقدّر معنى تلك الابتسامة حق قدرها، قلت لنفسي بعدما توارى: لن يفهمني بالغلط، لن يسيئ الظن بيّ كما يفعل غالبية الناس، همست وأنا أضبط حجابي حول رأسي وأستأنف سيري: هو صنف مختلف، لا تلتقي الأرواح إلاّ بمن يشبهها.

هكذا سارت علاقتنا، قد حرصت على كتمانها، ليس لأنني أفعل شيئًا مخالفًا، فضميري يطمئن لعلاقتي به، أنها تقف عند حد لا ولن تتجاوزه، لكن خشيتي أن تنال منّا عين الحسود، فما أهون من أن تنهار علاقة بين اثنين بسبب العين، أنا أومن بأن من الناس من يُفسد بعينه أكثر مما يفعل بيده!

لكنّي أخطأت صباح اليوم، حينما رأيته، وجدتني أندفع إليه، أتخلى عن كثير من وقاري في الطريق العام، لم يردعني المارة من حولي، لم أهتم بنظرات المتطفلين من الرجال، أو استهجان النسوة، آيات الغمز واللمز من حولي، قلت لهم وأنا أنزع نظارتي السوداء من على عيني: ها أنا أمامكم، لا أخجل من صداقة تربطني بآخر، أفعل هذا في صحو النهار، دون مواربة، لا أتستر خلف الضباب ولا أتدثر بالعتمة، أنتم تعلمون مقصدي جيدًا.

 ثم غاليت في جرأتي، أخرجت هاتفي بكاميرته القوية، سجّلت مقطع “فيديو”، ونحن نتصافح بالأعين، أجزم أن نظرة حب تسلّلت إليه على رغم منّي، برغم أنني لطالما تهرّبت من الوقوع في هذا الفخ، لكنه القلب وما يهوى، ثم برعونة أنثى لم تذق من قبل طعم الدفء الإنساني الحقيقي، نشرت المقطع على صفحتي على “فيس بوك”

قبيل أن أغادره مودّعة باسمة، انهالت عليّ تعليقات جارحة، بعضها وصمني لما ليس فيّ بأوصاف بشعة، تهم لا تليق، أخرى أتتني من رفيقات درب عمل، اتهمنني بالخروج على التقاليد، منهن من نصحتني بضرورة مراجعة طبيب، قالت في رسالة صوتية بالغة الحدة والقسوة: تغازلينه على الملأ، تتجاهلين أن صوتك عورة، أنك ما كان يجب عليكِ أن تفعلي ما فعلتيه، أكملت موعظتها الدينية، بأن العلّة النفسية تمكّنت منّك.

كنت أقرأ التعليقات وهي تتوالى على شاشة هاتفي، تسبقها دموعي، التي كنت أواريها قدر استطاعتي، مسحت وجهي بيدي عدّة مرات، كفكفت دمعي، التفتُّ إليه وأنا لا أدري ماذا أقول له، غير أن “مَنّْصْ”، بادرني بأن وضع ذيله بين ساقيه، نبح بحزن عميق، ثم ذهب حيث لم أره بعدها. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s