غادة صلاح الدين
اللوحة: الفنان الفرنسي جين جوليان
كانَتْ رشا تستهويها القراءة منذ الصغر، تربَّت على أدبِ نجيب محفوظ، وهذَّبَت وجدانها أشعار فاروق جويدة ونزار قباني. كانت تعمل في خدمة العملاء بأحد البنوك الكبرى، فتقابل كل يوم كثيرًا من البشر المختلفين في كل شيء.
وفي يوم كان العمل قد أوشك على الانتهاء، واستعدت لمغادرة البنك، فاجأها مديرها بأن هناك عميلا يهتم بأمره، وطلب منها مساعدته، فأخذت الأمر يسيرًا كعادتها، وانتظرت مندوب المدير حتى يأتي إليها بالعميل وقالت: “أهلا وسهلا يا أفندم”.
استمعت له باهتمام وعرفت طلباته، وبدأت في إنجازها، في الوقت الذي استقبل هو فيه تليفونا بحيث ظهر من الحوار أن على الطرف الآخر دار نشر؛ لأنه يتحدث عن طباعة كتابه الجديد.
كانت سعيدة جدا بهذا وانتهت من إنجاز ما يريده، وتبسم لها شاكرا إياها، فسألته على استحياء: حضرتك كما سمعت كاتب؟
فرد باسما: لا يا آنسة؛ أنا صاحب دار نشر، وأنشر لكل الكُتَّاب.
– حضرتك مهتمة بالقراءة؟
قالت بسرعة: نعم. وجذبت حقيبة يدها وأخرجت منها ديوان “الليالي الأربع” كي تثبت له أنها مهتمة فعلا.
أخذ الديوان من يديها وقال: “الله، أحمد بخيت! يا له من شاعر كبير، أحب هذا الديوان جدا وقصائده عموما”.
أحبت أن تظهر له حبها للأدب ومهارتها في إلقاء الشعر، ابتسمت وقالت:
أنا الصوفيُّ
والشَّهوانُ
عَشَّاقًا ومعشُوقا
أسيرُ
بقلبِ قِدِّيسٍ
وإن حسِبُوهُ
زنديقا وحين أحبُّ
سيدةً
أحوِّلها لموسيقا!
انبهر بها وصفق إعجابا لإلقائها وحبها للشعر، وسألها هل تكتبين الشعر؟ فضحكت وقالت بدلال: ستطبع لي ديوان؟
قال لها: أنا تحت أمرك طبعا، وهذا الكارت الخاص بي وبه حسابي على الفيس بوك؛ ستجدين كل منشورات الدار.
ودعته بابتسامة رقيقة واستعدت للمغادرة.
في المساء أرسلت له طلب صداقة، وتفقدت صفحته كي ترى الكتب المتاحة، لكن ما لبثت أن أرهقها تعب اليوم، فخلدت إلى النوم.
في اليوم التالي بعد عودتها من العمل، وانتهائها من وجبة الغداء، فتحت جهاز الكمبيوتر الخاص بها، تصفحت الفيس بوك، وجدت عددًا كبيرا من طلبات الصداقة لأشخاص لا تعرفهم، والصديق المشترك بين هؤلاء الغرباء وصفحتها، هو صاحب دار النشر.
كان واضحًا أن هؤلاء من المثقفين والأدباء، اكتشفت هذا الأمر بعدما تصفحت معظم منشوراتهم.
أدهشها شخص غريب، تجرأ أن يرسل إليها رسالة واحدة قرأتها بقلق وتوجس:
“سيدتي العزيزة هل تقبلين صداقتي على هذا الفضاء الأزرق الذي تلون بلون الفرح عندما رأيت صورة الملاك الذي أحدثه الآن”.
ارتعشت للوهلة الأولى، وغضبت، فقرأتها مرة ثانية، ثم كتبت رسالة ومسحتها، أغلقت الكمبيوتر وتظاهرت بالتجاهل ثم ذهبت لتنام، ولكن لم يغمض لها جفن حتى سمعت أذان الفجر، فصلَّت ورجعت إلى الكمبيوتر تفتح متصفحها، تبحث عن تلك الرسالة الغامضة؛ لتمسحها، فوجدت رسالة أخرى تقول:
“أيها الملاك الساحر، هل أستسمحك أن تقبلي صداقتي؟ أقسم لك لم أستطع الخروج من صفحتك منذ أمس”.
أغلقت الكمبيوتر وذهبت إلى العمل وعقلها معلق بالبيت أمام الرسالة.
حاولت أن تنهي الأعمال المتراكمة على كاهلها، ولكن هيهات، لم تستطع، فاستأذنت من مديرها ورجعت إلى البيت كي ترتاح، كانت تفكر في الرسالة وصاحبها الغامض، وعزمت بداخلها أن تمحو هذه الرسالة فور وصولها لكنها فوجئت برسائل أخرى!
هي لا تثق بأحد بسهولة، ولكن ثمة شيء ما مختلف يقودها نحو هذا الغامض بشدة.
فتحت الرسالة دون أن تنتبه إلى أنها في حالة سعادة تغمرها:
“أيها الملاك البريء، لا أعرف ما السر الذي يقودني إليكِ، ولا أعلم سبب تطفلي بهذا الشكل الغريب، ولأول مرة في حياتي أبدو هكذا! شيء بيننا لا أعلم ماهيته. ارحمي ضعفي، وترفقي بقلبي ولو بكلمة واحدة”.
كتبت له: “مساء الخير”.
أخذت الرسائل تنير سماء الفضاء الأزرق، فرحة كبيرة تغمرها، لا تعلم من أين أتت ولا كيف حدثت. تعجبت لشعورها الغريب بالحنين!
تساءلت بينها وبين نفسها حنين لمن؟ أو حنين لماذا؟
عادت بعقلها إلى أرض الواقع، تظاهرت باللامبالاة، أقنعت نفسها أن ما حدث شيء عارض لا يستحق التفكير فيه.
هرعت نحو مكتبتها، توارت خلف صفحات كتاب تحبه، أعمال نزار قباني الكاملة، وتخيلت ذلك الشخص الغامض يقرأ لها أشعار نزار:
يسمعني حـينَ يراقصُني
كلماتٍ ليست كالكلمات
يأخذني من تحـتِ ذراعي
يزرعني في إحدى الغيمات
والمطـرُ الأسـودُ في عيني
يتساقـطُ زخاتٍ زخات
يحملـني معـهُ يحملـني
لمسـاءٍ ورديِ الشُـرفـات
داعبها صوت ماجدة الرومي مع ابتسامتها العذبة، فاجأها صوت آخر، أصبحت تحبه مؤخرا دون أن تنتبه، صوت رسالة جديدة.
“مساء الخير”
انتظرت قليلا، أخذت تفكر وتستمع لماجدة وهي تغني.
(أنا محتاجة جدا لميناء سلام).
باغتتها الرسالة التالية:
“يبدو أنك مشغولة أو أن الوقت غير مناسب”.
سبقتها أناملها وكتبت له: “مساء النور”.
كيف حالك؟ وكيف كان يومك؟
وأخذهما حديث طويل، عرفت منه أنه كاتب مبتديء، صدرت له مجموعة قصصية واحدة، يسكن مدينة بورسعيد، يعمل محاسبا، ويقيم مع والده في الطابق الثاني من العمارة نفسها، ثم حكى لها عشرات التفاصيل.
أصبحت صفحته الشخصية جنتها الصغيرة وملاذها الجميل كل يوم، صوره جميعها احتفظت بها، كانت منشوراته مميزة تنبيء بقدوم كاتب مختلف؛ ثقافته الواسعة كانت واضحة من خلال أحاديثه معها في الصباح إلى أن تصل مكتبها، تتركه عندما تصعد إلى الأسانسير، ليس برغبتها ولكن لعدم وجود شبكة داخل هذا القفص الحديدي الذي يفصلها عنه، ولكنه في الوقت نفسه يفتح لها أفقًا للتحليق في سماء الخيال، وينقلها من مكانها إلى عالم رحب مغاير يتخطى حدودا نسجتها وحدها كان بطلها رسائل الفيس بوك.
ما إن تصل إلى مكتبها بعد تحية زملائها، تنتظر صوت رسالته: “وصلتِ بالسلامة”.
فتكتب مبتسمة: “أيوة يا سيدي، وصلت أُمَّال هاروح فين؟!”.
فيرد عليها: “وبتضحكي ليه؟!”.
فتضحك فعلا بينها وبين قلبها وتخشى عيون المتلصصين وتتركه لعمله وتستغرق في أوراقها التي تلونت بلون الفرح.
عند أذان الظهر تنتظر الرسالة “أخبارك إيه؟”.
فترد مبتسمة: “تمام الحمد لله هاروح أصلِّي”.
فيرد: “دعواتك يا حاجة”. ويضحكان.
عند انتهاء عملها أول ما تفكر به هو الاتصال بهذا الحلم الذي أدخل البهجة والفرحة إلى حياتها دون إرادة منهما.
عندما تصل إلى المنزل تستقبل ابنتها الصغرى بالأحضان ويلعبان كطفلتين يستقبلان العيد كل يوم.
خمسة أشهر مرت كحلم، جاء إليها معرض القاهرة دون أن يخبرها بذلك، كان يعلم موعدها مع أصدقائها في ذلك اليوم، وأراد أن تكون مفاجأة لها.
ما إن رأته حتى كذبت عينيها، كادت الفرحة تفتك بنبضات قلبها الذي شعر به قريبا قريبا. أخذته وابتعدت عن عيون الناس والكتب ونسيت كل شيء إلا وجوده. تنقلا بين الكتب التي جمعت أفكارهما، وكانت محل نقاش ساخن بينهما، يصل إلى استفزازه أحيانا، وتضحك في النهاية قائلة: كم أحب أن أراك هكذا.
بسرعة البرق انتهى اليوم، اتصل والده ليطمئن عليه وعلى موعد عودته وقال له أمامها: لماذا لم نسكن بالقاهرة؟! القاهرة جميلة جدا جدا، وضحكا معا.
لم تنم ليلتها إلا عندما تأكدت من وصوله بالسلامة.
مرت الأيام حلوة مرحة مفعمة بالآمال والأحلام، وذات يوم طلب رأيها في نهاية الرواية التي يكتبها. كانت تعرف كل كلمة فيها، تتابع ما يكتبه حرفا حرفا. قال: ما رأيك في النهاية هل سيتزوج البطل والبطلة؟!
قالت له: ليست كل النهايات سعيدة، من الممكن أن يتزوجا وبعد فترة تواجههما مشاكل الحياة ويفترقان. فقال: أبعد كل هذا الحب يفترقان؟!
قالت: نعم. ثم أنهيا حديثهما المليء بالشجن واتفقا على أن يتكلما في المساء كالعادة.
وتشكلت تلك الليلة الفارقة عندما سمعت صوت رسالة الماسنجر وطار قلبها فرحًا، هرعت إلى الهاتف، فوجدت رسالة من صديق لرأفت: (البقاء لله .. مات قلبك في حادث سير).