أيمن جبر
اللوحة: الفنانة الأميركية جـورجـيـا اوكِـيـف
كانت أمي تطلق على الباذنجان لقب «تُفاح الغَلابة».. في طفولتي لم تكن الدنيا مُنفتحة مثلما هي اليوم، فقد كان التفاح يُسمى بالأمريكاني، ولا يتواجد في الأسواق، ثم كَثرت الأمثلة الشبيهة بهذا المثل، مثل أن الفلافل المصرية هي كباب وطني!
لم يجعل الله تعالى الخير والفائدة فقط في كل ما هو غالي الثمن؛ بل جعل له نظائر كثيرة يَقدر عليها الفقير، وفي عالم المعضلات والحُلول؛ نحن نعاني من النظرة التي تنجذب فكريا وشعوريا للمستحيل وتقع في أسره، نتلهى ونتعامى عن المُمكن والمُتاح؛ ولا ترى أعيننا وأفكارنا سوى المستحيل والذي ليس بأيدينا، وكلمة السر في هذه المعضلة هي «العَقْلية».. نحن نحتاج مرونة في العَقلية وهي التي تُبدع مُرونة في الحياة.
سوف أضرب أمثلة من الحياة ولها أشباه كثيرة:
في السجون؛ نتمنى ألّا تكون السجون حاضنة لتدريب وتخريج عُتاة المجرمين، ونتمنى ألّا تكون حاضنة للأمراض المجتمعية الخطيرة، وهذا أقرب إلى المستحيل حاليا، وفي نفس الوقت ليس بأيدينا، حيث يسجن الكل مع الكل ويتعلم الكل من الكل، فالسجون تجمع بين المجرم الساذج والمجرم العريق في إجرامه، ويكون الأول تلميذا للثاني، فتتطور العقلية والنفسية الإجرامية وينحدر معها الفساد السلوكي والأخلاقي، ولكي نمنع أو نحد من هذا الفساد نحتاج كثيرا من الوقت والمال، ولهذا يجب البحث عن وسائل ملطفة للأثر وعازلة.
والممكن والذي بأيدينا ولن يكلفنا أي مجهود أو مال؛ أن تُعطَى حوافز للسجناء ويكون الإنفاق من أيام السجن، مثل أن من يقرأ كتابا أو يحفظ القرآن أو الإنجيل؛ ثم يُختبر فيه من متخصص، يُكافأ بأن يُطرح من أيام حبسه، وكذلك من يحصل على مَهارة حِرفية أو علمية؛ فالمهارة أو الحرفة أو العلم تصب جميعها في صالح المجتمع، وتسلح الفرد بأدوات تساعده عند الخروج للحياة الحرة مرة ثانية، والأيام التي تُطرح من سجنه تُهون عليه وتعطيه أملا؛ وفي نفس الوقت تُفرغ السُجون من نُزلائها وتُخفف الضغط عليها.. فكرة بسيطة بساطة شراء الباذنجان والفلافل، وليست بدعة، فالعالم المتحضر يطبقها ببراعة وإنسانية، والفائدة عظيمة.
هناك فكرة أخرى قد تؤجل أو تمنع التورط في حياة السجن، وهي أن يكون لدى القاضي صلاحيات تطبيق أحكام مدنية، كأن يعمل الجاني في مصنع بلا مقابل أو يخدم في مؤسسات مدنية أو يخضع لعقاب مضاد للجنحة التي ارتكبها، فإن كان الكِبر سببها نال عقابا يخفض من كبريائه مثل كنس الشوارع وجمع القمامة، وإن كان الجُرم دافعه القسوة فيخضع للأعمال التي تبث الرحمة مثل الخدمة في المستشفيات والعمل في المزارع التي تربي النفوس الحيوانية والطيور، أو أن يقوم بالقراءة لفاقدي البصر أو خدمة العجائز في دور الرعاية.
في مجال التعليم لدينا أزمة كبيرة، ولكن المفاجأة أن هناك حلولا بسيطة جدا، تستطيع أن تتغلب بقوة على هذه الأزمة، وقد تم تطبيقها في أحد البلاد الأوروبية، وملخص الفكرة، افتراض أن المعلمين جميعا بمستوىً متقارب جدا في فهم المادة التي يشرحونها، ولكن القدرة على توصيل المعلومة وشرحها هي موهبة وقدرة خاصة لا تتوفر سوى لعدد قليل من الموهوبين، ولهذا يتوقف تقبل الطالب للمادة واستيعابه لها على حَظه في موهبة المعلم.
هنالك أمثلة كثيرة لذلك عبر التاريخ، يوجد علماء متخصصون في شرح نظرية أينشتين تفوقوا بمراحل على أينشتين نفسه في شرح نظريته.
عندما كنا أطفالا؛ كنا نقرأ كُتبا روسية بعنوان «تبسيط العلوم»، وكانت من أمتع الكتب، يقوم أكثر العلماء موهبة بشرح العلوم مهما كانت معقدة؛ فيقومون بتبسيطها وضرب أمثلة تقريبية مع الصور الدقيقة والملونة، بحيث يفهمها الطفل، مثل تركيب السيارة، استخدام البخار كقوة محركة، الطائرة، الصاروخ، الكواكب، صناعة النسيج، استخراج البترول… إلخ، وبهذا نتفق على أهمية وندرة الموهوبين في توصيل المعلومة؛ لهذا قامت إحدى الدول الأوروبية بالاستعانة بأشهر وأمهر المعلمين في شرح كل مادة دراسية، وتم تسجيل الشرح بأكفأ وأحدث أدوات التقنية الحديثة، وباستخدام أرقى الفنون في العرض على الشاشة، بحيث يكاد الشرح يقترب من الكمال بالنسبة للطالب، وبهذا يتوفر للطالب أفضل فيديو يحتوي على أقصى قدرة للشرح والعرض، وتتاح الفيديوهات مجانا على الإنترنت للجميع، وفي المدارس، يقوم المدرس بعرض الفيديو على الطلاب، ويستمع معهم للفيديو، وبعد العرض تكون وظيفة المعلم هي تلقي الأسئلة ومعالجة ما صعب فهمه على الطلبة وتدريبهم على كل ما يتعلق بالدرس، فيعود الطلبة للمنازل ويستطيعون مراجعة نفس الفيديو مرات ومرات.
السؤال هو: هذه الفكرة البسيطة جدا في تكلفتها والتي تحتوي على نتائج تشبه المعجزة وتُصلح التعليم سريعا والتي في إمكانات أي دولة أو حتى مؤسسة صغيرة، ولن تكلف مالا، أليست جديرة بالتدبر فيها؟
الأفكار الذهبية والتي بسعر الباذنجان كثيرة جدا ومعروفة في كل العالم؛
كالأسر المنتجة، والزراعة على الأسطح، وأحواض الأسماك… إلخ.
كم من أفكار سهلة بأيدينا ولا تحتاج سوى نِيّة طيبة وقَرار بالتنفيذ! وفي نفس الوقت نتخلص من تَقمص حالة توهم الحيرة التي نحياها وتجعلنا مصممين على اختراع العجلة من جديد، ومع ذلك نفشل فيها مرات ومرات!

أيمن جبر، كاتب مصري مواليد ١٩٦١، يعمل مهندس كهرباء، صدر له أربعة كتب هي: «فيروس الدروشة» مقالات – 2020.«أخلاق الأتوبيسات» مقالات في التنمية البشرية – 2020. «إكرام الأرملة دفنها» قصص – 2020. «دوائر بلا أسنان» خواطر إنسانية – 2022. بالإضافة إلى العديد من المقالات المنشورة في صحف ومجلات مختلفة.