الكُتّاب

الكُتّاب

هناء غمراوي

اللوحة: الفنان الهنغاري لاجوس ديك إبنر

لا أعرف متى تحسنت علاقتي باللّغة وصار الكتاب صديقي ورفيقي الدائم! الذي أعرفه أن ذلك حصل في سن مبكرة، وقبل أن أتم التاسعة بالتأكيد. 

أما بدايتي مع تعلّم اللغة فكانت بداية مضطربة، ومعقدة للغاية. وأقصد في الفترة العمرية الممتدة ما بين السادسة والثامنة..

كانت تلك المرحلة من طفولتي ضبابية، غير واضحة المعالم. وكنت كلما غصت في الذاكرة أحاول أن أتنسم بعضا من أحداثها، تطالعني بعض من أيام تموز وآب القائظة في صباحاتها الباكرة، حيث أكون من أوائل المستيقظين في الدار، وذلك بعد ذهاب الوالد الى عمله، ونهوض أمي لمباشرة أعمالها المنزلية الكثيرة التي كان من ضمنها أيضا، الاهتمام بحديقة المنزل، ورعاية بعض الدواجن، والطيور..

اما استيقاظي المبكر، فكان بهدف الذهاب الى الكتّاب، أو بيت “الخوجاية” كما كنا نسميه. وكان عبارة عن غرفة صغيرة يحشر فيها الأطفال من الجنسين لتعلم تلاوة القرآن. أما الدوام اليومي، فكان يمتد من حوالي السابعة صباحاً حتى آذان العصر. أما العطلة الأسبوعية فكانت يوم الجمعة فقط.

لا أعرف ما الذي دفع بوالدتي لإرسالي خلال أشهر العطلة الصيفية الى ذلك الكتّاب، الذي كان اشبه بسجن بالنسبة لي. سيما أنني كنت اذهب بانتظام الى المدرسة خلال أشهر العام الدراسي دون اي شكوى أو تذمر.. لعلها كانت رغبة كامنة عندها في جعلي أتلقي المزيد من العلم، الذي حرمت هي منه عندما كانت في مثل سني.! أمي، التي كانت تحفظ عشرات الأبيات من الشعر العربيّ الفصيح، ومئات من الأمثال السائرة عن طريق السماع؛ لأنها لم تدخل مدرسة، ولا كتّاباً في طفولتها.

أذكر أنني في تلك المرحلة من عمري كنت هزيلة البنية. على طول ملحوظ مقارنة مع من هم في مثل سني، وكانت شهيتي للطعام شبه معدومة آنذاك. كل ذلك لم يشفع لي عندها بإعفائي من الذهاب يوميا الى الكتاب، وطوال ايام العطلة الصيفية.

كنت أصحو يومياً في ساعة مبكرة احشر ما تيسر من زاد بسيط في كيس من القماش وفي كيس آخر كنت أضع ما يسمى ب “الربعية” التي تحتوي على بعض الأجزاء من المصحف، الواجب عليّ حفظها، في تلك السن المبكرة.

كانت المدرّسة صاحبة الكُـتّاب، أو الخوجاية كما تعودنا أن نناديها امرأة طاعنة في السن، قصيرة القامة، الى نحول بارز في جسدها وبالأخص في وجهها، الناتئ عظمتي الخدين؛ حيث كانت تستقر عليهما نظارتاها السميكتان. وكانت عبوساً صارمة لا تهادن الأطفال ابداً.. اما قضيب الرمّان فكان دائماً ما يلازمها في جلستها، وهو جاهز لتنفيذ العقوبة بأيّ مخالف أو كسول..

كان الكتّاب عبارة عن سجن صغير بكل ما للكلمة من معنى فهو مؤلف من غرفة واحدة فقط. صغيرة ومربعة الشكل؛ بحدود ثلاثة أمتار للبعد الواحد. فيها نافذة وحيدة تطلّ على الحيّ. وقد فرشت بحصير بال كان الأطفال يتكدسون فوقه بالعشرات؛ وكانت الخوجاية تذكرهم دائماً بضرورة أن يجلبوا المال لشراء حصير جديد…

وهذه الغرفة، السجن كانت جزءً من البيت الصغير الذي تشترك فيه الخوجاية العجوز في السكن مع ابنتها المتزوجة، وعائلتها؛ والتي كانت تتحول حال انصراف الاطفال وبعد تنظيفها الى غرفة للنوم والمعيشة.

اما ابنتها، التي كانت تقترب من الخمسين فكنا نناديها الخوجاية الصغيرة، باعتبار ان الخوجاية الكبيرة هي أمها.

كانت اكتمال امرأة متوسطة القامة على امتلاء. بيضاء البشرة تزين وجهها ابتسامة لا تفارقها حتى أثناء تنفيذ العقوبة بحق أحد المخالفين. من الأطفال..

وكم كان سروري عظيما عندما كانت العجوز تغيب في زيارة لقريتها الجبلية في منطقة الكورة البعيدة نسبياً عن بلدتنا الساحلية الأقرب لمدينة طرابلس. حيث كانت الخوجاية الصغيرة تقوم عوضاً عنها بتلقيننا بعض السور والآيات القرآنية دون ان ترمي الرعب في قلوبنا الصغيرة. تلك الآيات والسور التي اعترف الآن انها كانت بالنسبة لي مجرد طلاسم. حيث كنت اردد ما تقوله الخوجة بصوت متهدج، ونفس متقطع، وانا أمرر أحد أصابعي على الحروف والكلمات أمامي دون أن اميز بينها، أو أفقه أيّ من معناها…

تمر الأيام ويزداد عدد الصفحات المقلوبة والصور والآيات “المختومة” دون احراز أيّ تقدم. والويل والثبور وعظائم الأمور عندما كان يفشي بعض الأولاد سراً بأن زميله نسي “الماضي” وهؤلاء الاولاد كانوا قلة لأن الأعراف كانت تقضي ان يتعلم الصبيان ممن تجاوزوا التاسعة في كتاّب الذكور؛ ولا يخلو الأمر من بعض الاستثناءات كحكم الجيرة وغيرها. عندها كانت الخوجة الكبيرة تشرأب لمعالجة الأمر فوراً؛ فهي تطلب من االتلامذة الاكبر سناً لبعض زملائهم اجراء امتحان تجريبي عن طريق المباغتة كأن يطلب من أحد الأطفال قراءة كلمة بوضع الاصبع عليها؛ بانتظار يوم الحساب الكبير الذي ستجريه الخوجاية نفسها.

اذكر انه في مثل هذا اليوم أصابني هلع شديد، وقد كنت على صغر سني على احساس كبير بالكرامة، والشعور بالمسؤولية تجاه ذلك الموقف المخيّب والمحرج، الذي سأجد نفسي فيه، فقررت التغيّب وادّعاء المرض. ولكن بنيتي الهزيلة لم تتحمل كل ذلك الضغط النفسيّ، فوقعت صريعة المرض فعلاً وتغيبت عن الكتّاب لأكثر من أسبوع.

عندما عدت كانت العطلة الصيفية تكاد تشارف على الانتهاء، ولم يعد يشغلني كثيراً “ماضي الخوجاية” وامتحانها. وانما وجدت نفسي أمام مشكلة أخرى لطالما تجاهلتها في السابق خلال ذهابي مشياً الى الكتاب، الذي كان يبعد مسافة لا بأس بها عن بيتنا. حيث كان بعض الرحّل يبنون خياماً على جانب ذلك الطريق. وكان عندهم مجموعة كبيرة من الكلاب الشرسة. ما كان ذلك يستدعي مني المرور بحذر شديد. كما كنت أتعرض للمضايقات والتنمر من قبل بعض الصبية المشاكسين سكان هذه الخيم.. 

فمرة يهددون بإفلات الكلاب خلفي، ومرة ثانية يحاولون سد الطريق لمنعي من المرور. وكنت في كل مرة انجو منهم بأعجوبة وأصل الى الكتاب لاهثة، تكسو وجهي صفرة كصفرة الموت. ولا أعرف حتى اليوم لماذا كنت أسكت عن تلك المضايقات ولم أخبر بها والدتي، أو أحد أشقائي الكبار. ربما عزة نفسي المبكرة منعتني من اظهار ضعفي وقلة حيلتي فآثرت الصمت.

وفي احدى الصباحات التي تلت عودتي الى الكتاّب اعترض طريقي أحد هؤلاء الصبية، وهددني بأطلاق الكلب خلفي. ما جعلني اسابق الريح في الوصول الى الكتاّب. وكان سهلا على الخوجاية ملاحظة خوفي واضطرابي عندما وصلت. لذلك عندما سألتني، صارحتها بكل ما كان يعترضني في الطريق… نهضت بسرعة وبيدها قضيب الرمان…عهدت بالكتّاب الى ابنتها الخوجاية الصغيرة وقالت لي: “تعالي معي”. وانطلقت بخطوات مسرعة غير آبهة بسني ّعمرها المديد، ولا ظهرها المحنيّ وهي تتمتم بغضب؛ انا سأعرف كيف أربي هؤلاء “النور”. لما وصلنا استدعت الأهالي بصوت عال وهددتهم بانها سترسل من يهدم الخيام على رؤوسهم إذا هم حاولوا التعرض لي أو لغيري من الأطفال مرة ثانية. ولم تغادر المكان الا بعد ان تعهدوا لها بعدم تكرار ما حصل.

عدت معها الى الكتاّب وأنا أحمل لها في قلبي الصغير الكثير من الشكر، والامتنان لأنها خلصتني من ذلك الكابوس المرعب، الذي كان رفيق رحلتي اليومية..

صحيح أن الخوجة لم يكن لها الفضل في تعليمي فك أبجدية الحروف العربيّة ولكنّها أعطتني درسا في التضامن الانساني والمؤازرة بقي يلازمني طيلة حياتي المهنية والاجتماعية؛ فلم اتوان عن نصرة مظلوم، ولا اغاثة ملهوف…

أعود اليوم بالذاكرة وأطلق لخيالي العنان في ذلك الطريق الممتد ما بين بين ذلك الكتّاب وبين بيت العائلة، الذي كانت تحيط به حديقة مغروسة ببعض أشجار السرو الباسقة الى جانب بعض شجيرات التين واللوز، التي طالما شهدت شيطنتنا ونحن صغار. أراقب ذلك الطريق اليوم، والذي كان يجاوره حقل كبير من اشجار التين والزيتون فلا أرى الا اعمدة الباطون الشاهقة المتلاصقة، التي تكاد تسد منافذ النور. فأعود وأغلق عيني من جديد؛ لأحتفظ بالّمشهد الذكرى؛ علّى أستحضر أشخاص من غابوا، وأمعنوا في الغياب.


الكُتاّب: مكان يجتمع فيه عدد من الأطفال والأولاد ليتعلموا مبادئ القراءة والكتابة والكلمة معروفة في معظم البلدان العربية. وجمعها؛ كتاتيب.

خوجة: كلمة فارسية كانت تطلق على مدرّس الصبيان، ومنها أخذت ايضا كلمة خوجاية للدلالة على المدرّسة الأنثى. 

رأي واحد على “الكُتّاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s