أيمن جبر
اللوحة: الفنان الروسي حاييم سوتين
في البرنامج التليفزيوني الجماهيري بأحد الدول العربية، استضافت مقدمة البرنامج المفكر الشهير، يشتهر هذا البرنامج بالصراحة والمباشرة وعدم المجاملة للضيوف، علاوة على ذلك يتعمد إحراجهم ووضعهم في فخاخ حادة، فالأسئلة مفاجئة وبلا حدود، والبرنامج كله رحلة إلى المجهول، فلا قدرة على الاستمرار في التصنع أو الكذب أو التظاهر برباطة الجأش، ولهذا أغلب الضيوف يمتنعون عن المشاركة في هذا البرنامج، إلا الواثق من نفسه وهم قليلون، أو بعض الضيوف الذين ينشدون مزيدا من الشهرة، أو يطمعون في استعادتها بعد أن خفتت الأضواء حولهم، فيفوزوا بإثارة الجدل الجماهيري حولهم.
جلست مقدمة البرنامج على مقعد في مواجهته، وفي الصالة مجموعة من الشباب، مهمتهم التصفيق والتشجيع وتوجيه بعض الأسئلة إلى الضيف، وفي الخلف فرقة موسيقية تقوم بإحداث نغمات حماسية أو تفاعلية حسب الموقف الحاصل.
قام الضيف بالإجابة عن بعض الأسئلة التي تُظهر مدى تفتحه الفكري، وتقديره للحرية كقيمة مطلقة، وأنها قبل كل شيء، المناخ الذي يتيح للإنسان اختيار عقيدته وممارسة عبادته دون ضغط أو نفاق، ثم عرج على إيمانه بالتسامح والتعددية الدينية والحرية وبقية القيم الحديثة، وفي ختام كلامه قال: «لا يعنيني أن أقنع أحدا بعقيدتي، فقط أعرضها، ولا يفرحني أو يحزنني أن يتفق معي أو يعارضني» وأخذ يتفاخر أنه ليس مُقلدا، وأنه قام بمراجعة كل أفكاره، وأن هذه المراجعة زادته إيمانا بالإسلام، وأخذ يعدد بعض الحجج التي زادت من إيمانه.
وأثناء اندماجه في الحديث جاء اتصال خارجي من أحد المشاهدين:
المتصل: معك جورج من لبنان، وأنا من القارئين لكتب حضرتك، ومن المعجبين بطريقتك في التفكير، ولقد تأثرت بتلك الحجج التي ذكرتها، وأسرني المنطق في كلامك، وإني أعلن أنني سوف أتحول إلى الإسلام، ولك الفضل في هدايتي، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. انفجر الجمهور في الهتاف الحماسي، وتأثر الموسيقيون فعزفوا موسيقى دينية تملأ المكان جلالا وإيمانا، وأطال الموسيقيون والجمهور في الاحتفال بالحدث.
ظل الضيف ساكنا حتى هدأ الجميع، ثم سأل معدة البرنامج عن المتصل، هل لا يزال على الخط؟ فأجابت: نعم هو يسمعنا، فقال له مخاطبا: حسنا يا جورج، أنت تقول إنك معجب بي وتقرأ لي، ولهذا لا بد أن أكون أمينا معك، فهل تسمح لي بأن أسألك؟
جورج: نعم بكل سرور.
المفكر: هل قرارك صدر نتيجة كلامي الذي سمعته مني الآن؟
جورج: نعم، كلامك مقنع ومنطقي وتسبب في زلزلة أفكاري.
المفكر: إذا اسمع مني ما سأقول وفكر فيه جيدا.
جورج: كلي آذان مصغية.
المفكر: أولا؛ لا بد أن تعرف أن أفكاري وقناعاتي لم يصدرا مني إلا بعد رحلة طويلة من البحث والحَفر في الأفكار واختبارها لمعرفة أصالتها، والعقيدة لا يتخلى عنها الإنسان لمجرد سماع كلمات مُقنعة، العقيدة التي نرثها؛ تسري في الدماء وتتخلل كل الوجدان، ولهذا من ينخلع عنها لا بد أن يخوض تلك الرحلة التي هي خطوات متتالية وأزمنة متتابعة، فما تم غَرسه في الأعماق لا بد من معالجته حتى يخرج دون دماء وألم، هل فهمت تلك الكلمات؟
جورج: نعم.
المفكر: ثانيا: من يسمع كلمات قليلة مثل كلماتي ثم يغير عقيدته، يعيش حالة من الخِفة ولذلك يسهل عليه إن سمع كلمات أخرى مختلفة وبها منطق أن يعود لعقيدته الأولى أو ينحرف لعقيدة ثالثة، ولهذا فمن هَلل لك مُرحبا لسماع قرارك هم الذين سوف يهاجمونك ويتهمونك حين تعود عن قرارك، ولهذا السبب أنصحك أنت ومن يغير عقيدته أن يتريث حتى يوقن أنه سوف يُصر عليها، ثم بعد ذلك هو حر في إعلان قراره أم كتمانه، هل فهمتني يا جورج؟
جورج: نعم أستاذ.
المفكر: ثالثا؛ نحن في مجتمع شديد التخلف، المسلم والمسيحي كل منهما يتعامل مع قضية انتقال الآخر بنفسية الأهلي والزمالك، ليس المبدأ هو حرية الاعتقاد، بل المبدأ هو مسار الانتقال، فحين ينتقل الآخر لي فهي حرية الاعتقاد والخضوع لقوة الحجة، وحين ينتقل إلى الدين الآخر؛ فهي الردة والتغرير والفتنة في الدين.. ولهذا فإعلانك السريع ليس مناسبا وسيثير فتنة وسيؤثر على علاقاتك بأسرتك وأهلك ومجتمعك، وكان الأولى أن تتولى معالجة هذه المشاكل قبل الإعلان، ليس من الحكمة أن تفتن أسرتك بتلك المفاجأة، لا بد من التدرج والتمهيد، وإلا سيحدث أثر حاد على الجميع وخاصة الأمن المجتمعي المتخلف في أفراده، لو كنت في أوربا لكان الأمر سهلا ولكن هنا لا بد أن نغير العقلية أولا، هل فهمتني؟
جورج: نعم أستاذ.
ثم توجه المفكر إلى الجمهور أمامه وقال: نحن في مجتمعنا نتساهل ونتغاضى عمن يلحد، وندعو له بالهداية، ونعاشره بود وصفاء قلب، ولا نتخذ أي موقف معاد ضده؛ ولكن من يتحول إلى الإسلام أو المسيحية من الطرفين ينال عقابا وحشيا وشاملا وتصبح قضية جماهيرية وطائفية بامتياز، ألا ترون هذا تناقضا ونفاقا دينيا ومجتمعيا؟
أطرق الحضور ولم يُنبس أحدهم بكلمة.
المفكر: نحن نعرف الطريقة الشهيرة التي تسمى «رمش عينه اللي جرحني»، حيث يقوم مسلم أو مسيحي بالتعرض بوسامته لفتاة، أو يستغل مسلم مشكلة زوجية لمسيحية تريد أن تتخلص من زوجها، ثم يحدث إغراء بتغيير الدين نتيجة العاطفة أو الحاجة للخلاص من المشكلة، ويصفق هذا الجانب فرحا بالفوز ويهتاج الجانب الآخر تحت شعور الإهانة والخيانة، يجب أن نضبط مشاعرنا ونختبرها لكي تكون ردود أفعالنا صحيحة.. هل فهمتموني؟
الغريب أنه لم يتلق سوى الصمت الحائر أو الممتلئ بالدهشة، فالسيناريو الذي فرضه المفكر على اللقاء، لم يكن يخطر بالبال ولم يكن هنالك تعليمات محددة للجمهور حيال هذا الخطاب المُفحم منه، فأفراد الجمهور موظفون في البرنامج.. ساد صمت لدقائق نتيجة ارتباك الجميع ثم خرج من وراء الكواليس أحد الشباب، وعرَّف نفسه قائلا: «أنا محمد، الذي كلمك على أنه جورج!»
وهنا قامت مقدمة البرنامج بالتصفيق لتكسر الصمت، وتبعها الجمهور بالوقوف والتصفيق للضيف الذي أفلت من المقلب الخطير.
خاطبته مقدمة البرنامج قائلة:
لقد كان الفخ هو اختبار «الانسجام بين قولك وفعلك»، فكلامك البارد والواثق عن الحرية، وخاصة حرية العقيدة، وادعاؤك الجمع بين الإيمان العميق والتسامح مع الآخر يصعب تصديقه في هذا الزمان المشبع بالتعصب والطائفية، ونجاحك كان مفاجأة مذهلة، فقد كنا نتوقع أن تغمرك مشاعر الفرح والفخر لتمكنك بكلمات قليلة من إقناع إنسان بتغيير دينه، وتوقعنا أن يؤثر فيك تهليل الجمهور والموسيقى المتكلفة، ولكن احتفاظك برباطة جأشك وإدارة هذا الحوار بتلك السلسة من الحجج، دليل على متانة أفكارك وإيمانك بها، ولو انطلت عليك الحيلة لكان الموقف شديد الحرج لك أمام الكاميرا.