امرأتان مغريتان للإنقاذ

امرأتان مغريتان للإنقاذ

نورا أحمد

اللوحة: الفنانة الأردنية بسمة النمري 

في بلاد بعيدة كانت امرأة، لم يكف لانتشالها من ألمها كونها أميرة، مشهورة، محبوبة، غنية وجميلة جِدًّا، إنها الأميرة المحبوبة «ديانا»، أميرة تمثل جميع نساء الأرض اللواتي يعشن قصة زواج فاشلة ويستمتن لصنع النجاح الزوجي تحت كل الظروف التي من المستحيل أن ينجح بها الزواج!

أعتقد انها تحملت «غلاسة» وثقل دم وطينة تشارلز حتى لا تتحدث عنها وسائل الإعلام، وحتى ترضي العائلة المالكة وعائلتها والمجتمع، وأكيد لأجل ابنيها، وأعتقد أنها بطلة لأنها عاشت تحت رزح هذا العذاب مدة لا يستهان بها،

المثير في قصتها والبطولة الحقيقية انها استطاعت اخيرا ان تخرج من قمقم الآخرين ورمت بكل أفكارهم وآراءهم حولها في الجحيم وانطلقت حرة بعيدا عن زوجها، ديانا محبوبة الجماهير لأنها صادقة مع نفسها وصدقت مشاعرها واستمعت لصوت ظل ملحا بداخلها؛ تحررت وهذا ما يجب أن تفعله كل امرأة في ظروف مشابهة سواء كانت أميرة أو فقيرة، قالت: لقد أحبني السود والبيض والمثليون واليهود عدا الرجل الذي أحببته في حياتي!

الذي استغربه حقا كيف أحبته في المقام الأول! لروحها الحرة السلام.. ما يعجبني في قصتها أنها مهما بدت من الخارج مغرية للإنقاذ إلا أنها لم تضطر إلى أن ينقذها أحدهم، فالخالق أنقذها!

*** 

وهذه، امرأة أخرى، هنا في بلادنا القريبة، امرأة مغمورة متوسطة الحال والجمال من عامة الشعب، كفاها لتنتشل من وحل الألم كونها لا أحد!

كانت نورا مغرية للإنقاذ وهي متكئة على سيارتها وكأنها سندها الوحيد في هذا العالم، ذلك السند الذي سيمنعها من السقوط، السيارة البيضاء المنقبة ببرقع أسود، ولست أصفها وصفًا مجازيًا بل إنه الواقع فمقدمة السيارة استبدلت بقطعة سوداء بعد آخر حادث، دامعة العينين بماءٍ منهمرْ، انسكب كأمطار نوح عليه السلام من بوابات سماوية، يشي عرق الشقاء على جبهتها الحنطية بيوم عمل مجهد بدأ عند التاسعة وانتهى عند السادسة، بالعباءة الزرقاء ذات البقع السحابية البيضاء والتي كانت تحيط جسدها، شبيهة لسماء غائمة على وشك الهطول.

بدا لمن ينظر إليها في وقفتها المتهشمة تلك أنها في حاجة ماسّة ليتم إنقاذها، منكسرة لدرجة قبول أي مساعدة ممكنة!

بدأت الرحلة بعد أن قادت نورا سيارتها وهي عائدة من عملها، السيارة المصابة بحرارة ترتفع للمنتصف حتى تصل للـ H، وبعينين متوترتين تنتقلان بين مؤشر الحرارة وورشة للإنقاذ والعلاج الفوري، وصلت أخيرًا.. انتبهت من مكانها أمام الورشة التي استطاعت حرارة السيارة الصمود للوصول اليها، وهي أول ورشة طبعًا تعثرت بها في الطريق الذي بدا أطول من المعتاد، انتبهت لنظرات الميكانيكي المشفقة، لم تستفزها نظراته التي كانت تعرض المساعدة ورغبة صادقة إنسانية في الإنقاذ من سبب هذه الدموع! ولأول مرة لم يحملها الكبرياء على تمالك نفسها وكبح جماح حزنها. 

بينما يعالج الميكانيكي حرارة السيارة، أخذت تراقب جيدًا من عالمها الموازي وفي بعد آخر لا يراه إلّاها حبات رمان عمرها، وهي تنفرط أمام عينيها رمانة تلو الأخرى! أربعون رمانة انفرطنَ كأن لم يكنّ! كانت نورا مشغولة حقًا برمانات عمرها عن الإنسان الذي يشفق عليها متصورًا أن سبب دموعها هو حالة سيارتها المزرية.

«كلا يا ابن أبي، لا أبكي السيارة ولا الرمانات السبع عشرة اللاتي أكلن (بضم الألف) في مؤسسة الزواج بنهم بدوي صحراوي جائع، لم يذق في حياته إلا حصرم وعلقم..» قالت نورا لنفسها هذا وهي تغص بشهقة وجع عميق! إنما كانت تبكي ذاتها التي وجدتها بعد الكثير من صولاتٍ وجولاتٍ مع ذواتٍ أخرى ثم أضاعتها في لمح البصر.

كانت تردد بأسىً دفين: «الرحلة حزينة للأسف» وصوت عبادي في خلفية عالمها الموازي يصدح بمكبرات صوت يقشعر لها جسد الأرض، وكأن حقلًا مغناطيسيًا يمر تحت ذرات التراب فيستنهض مروءة الطين إذ انتهت مروءة بعض بني آدم!

هي لا تبكي مسؤوليات الأب التي اضطلعت بها حبًا بأطفالها، وكفارةً لجلبهم إلى كوكب مسمم عدائي اسمه أرض!ولا تبكي عجزها عن إكمال سعادة ضمهم إليها بأن يصيرون معًا في بيت مستقل، ولا تبكي عجزها عن منحهم بعض الأمان الذي تزعزع بكلمة الذكورة الملعونة!

لم تكن تبكي قلة المال ثقة منها بأن مانحه يؤجل موعده لحينٍ تكون فيه مستعدة، ولا سوء المركبة – المنقبة – التي لا تلبث أن تصلح يومًا حتى تعود للتعطل بعد أيام معدودات، لا لم تكن تبكي قطها الرمادي الحبيب ومرضه وانتظاره لها لكي تهتم به وتراعيه، ولم تبك على فوات موعد المحاكمة الذي أغفلته عندما كانت منهمكة بين العمل ومراعاة كسر اليد الذي تعرضت له طفلتها الصغرى أميرة أمها.

حقًا ومن باب الفضول المحض.. هل سيفهم القاضي وحضرة الشيخ المبجل من قصره العاجي أن عدم حضورها الجلسة ولأول مرة كان بسبب قيامها بأدوار متعددة كدور الأم العاملة مثلًا، أو بدور الأب البطل المغوار الذي حضر الجلسة على الموعد ولأول مرة؛ ليثبت عجزه عن النفقة كذبًا وزورًا؟ ألا قاتل الله كل كاذب أفاك أفاق! 

هل سينظر القاضي بعين الإنسانية لطول أمد القضية وتضررها هي وأطفالها؟ 

حقًا إذا كان هذا نظام قضائنا بعد تعديل القوانين نحو إنصاف أكثر للمرأة وجعلها لصالح الأم والطفل، فكيف كان سابقًا يا ترى؟ 

حقًا هل القضاء يحكم بشرع ودين غير الذي أدين به وأعرفه؟ إذا كان ذات الدين الرحيم العادل لماذا إذًا قضية نفقة تأخذ شهورًا ليتم حسمها؟ حسنًا لطالما عزيت نفسي بمقولة أرددها بعد كل جلسة محكمة: فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء، وللإنصاف سأقول إن قضية حضانة طفلتي الحبيبة لم تستغرق سوى يومين، وبعد أن أخذت الحضانة المستحقة اتصل بي سكرتير وزير العدل مشكورًا لتهنئتي كوني أول امرأة سعودية تنهي قضية حضانة بعد التعديل المنصف، وتغيير نظام الحضانة كاملًا، وسألني عن رأيي في الخدمة الجديدة ومدى رضاي، شكرته كثيرًا وعجزت حقًا عن إيصال شكري لوزير العدل لأجل الطمأنينة التي رأيتها في عيني طفلتي عندما أريتها صك الحضانة، وأخبرته عن قضايا الفسخ والنفقة التي ما زالت تتأخر، وأن الضرر الذي ينادى برفعه عن النساء والأطفال ما زال قائمًا، ساردةً له باختصار تجربتي، وقد كان مهتمًا جِدًّا وأخذ ملاحظاتي بجدية وكتبها لديه وشكرني جِدًّا لأن صوتي قد يساعد الوزير لإحقاق العدالة.

*** 

لماذا أكتب بكل هذا الشتات؟ هل للشرود علاقة وثيقة بالتشرد يا ترى؟ ربما!

يا لسعة وكثرة انتقادك يا نورا لأمور تافهة فرعية كتأخر البت في قضية واضح جِدًّا المتضرر فيها، كوني ممتنة للنعم.أعود لسبب ماء سماء نورا المنهمر.. وخطابي هنا للميكانيكي، للإنسان، وللمشفق الذي لا يرى إلا بعينيه:

إنما كانت نورا تبكي ذاتها يا هذا، فلا تشفقن عليها بربك، ما تريده هذه المخلوقة لا تستطيع لا أنت ولا سواك منحه لها، وما تكابده نورا لا يستطيع أحد غير الخالق برحمته ولطفه إنقاذها منه، نورا هاربة من نورا.. وهي باحثة عنها بين ذواتها العديدة أيضًا، لا ترتاح هذه الروح يا هذا إلا إذا عادت نورًا وغشيها سلام نوراني لا يد لمخلوق فيه.كلا لن تنقذها أنت أو سواك، فأشح بوجهك إلى حيث من يحتاج انقاذا منك وقد يحتاج خدماتك حقًا. 

ما يعجبني هنا في قصتها انها مهما بدت من الخارج مغرية للإنقاذ إلا أنها لم تضطر إلى أن ينقذها أحدهم، فالخالق أنقذها؛ أيضًا!

3 آراء على “امرأتان مغريتان للإنقاذ

  1. (نورا/ديانا/كُل نساء العالم)..الطلاق، والفسخ ،والخلع ليست ترفاً لنا معشر النساء..
    المعضلة ليست القضايا المعلقة او المتأخرة ، المعضلة مايعتقده من يظن أن الحرية هي بُغيتنا ومُرادنا(الحرية هنا بمعنى التفسخ الاخلاقي والديني) ليست حرية الروح والجسد والفكر.
    كل ماسبق هو العنوان الرئيسي لحكياتك نورا ، اما ذاتك المفقوده في عجلة الحياة المتسارعه لن ينظر اليها أحد ، حتى تلك العيون المتعطشه للمساعده في كل مكان ، لن يفهم الكل ماتتجرعة روحك كي تظل قوية ، ومحبة ، وتملك مشاعر ، ولاتتنازل عن مبادئها كي تساير الحياة والاحداث .
    اعذريني تزدحم الكلمات والمشاعر ولا أجيد كتابتها او تنميقها ، لكني أشعر بعمق وآسى بما يحدث.

    إعجاب

  2. “بالعباءة الزرقاء ذات البقع السحابية البيضاء والتي كانت تحيط جسدها، شبيهة لسماء غائمة على وشك الهطول”
    الله الله الله! كم أنتِ مذهلة بالوصف و التشبيه طابت انفاسك يا نورا القلب و الروح.

    أنتِ نورا القوية التي أفتخر بكِ و بقوتك أنا اعلم وأثق جِدًّا حب الخالق لك، اعلم أن خالقنا بيده الرحيمة هو الذي سيبدل لكِ الحياة فرحًا و نورا ..
    أنتِ يا نورا قوية حتى دموعك التي تهطل على خدكِ الرقيق يريد خدكِ نعمة هطول المطر و تمطري ليرتوي خدكِ العذب الرقيق ..
    يا مرحبًا بـ سَيّال عيناكِ العذب الرقيق يا نورا القوية العظيمة ..
    سبحان من حباكِ قوة الحرف و أثر قوة الحرف قبل الكلمة! حروفكِ يا نورا تصل لشغاف الروح و لُبَّ الفؤاد و سويداء القلب يا قلبي يا نورا، لا فُضَّ فوك بليغة في الألفاظ سلمت يداكِ و طابت انفاسك على هذا النص العميق ولا يستغرب منك هذا العمق الجمالي يا ابنة الشمس و ابنة السماء، تذكري دائمًا بأن حروفكِ ستصل لقلوب الجميع و أنتِ صوت الإنسان و صوت المشاعر .. أنتِ معنى الحرف صدقيني، أفتخر بكِ دائمًا وأبدًا وبقوتك.

    إعجاب

  3. كلام مؤثر يانورا وسرد رائع كسابقه ، لكن ايتها الاميرة نورا يجب ان تقفي على ارض ثابته وتحددي اولا انتي ماذا تريدين ، لأنك الى الان لا تعلمين ماذا تريدين

    إعجاب

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.