الخامسة علاوي
اللوحة: الفنان الروسي مارك شاجال
هذه سراب، بنيتي، التي امتلأ بها قلبانا تحملها أقدارها اليوم إليّ أنا المسجى في رمسي منذ يومين، ويا لهف النفس عليها، والروح تقودها إلينا دون سابق انذار.
انظريها ميمونة، ها هي تروي القبور العطشى، تنزع عنها ما اعشوشب من نبات، يا لسعادتي ها هي تجلس في هدوء إليّ، تحثّ بيديها الرقيقتين تراب قبري، ترقبيها..، تابعي..، هي تسأل عنك حبيبتي تقول: أهلا أبي، ترى هل هذا القبر الذي بجانبك هو قبر أمي؟..
استمتعي عزيزتي بصوتها، بملفوظها الذي حُرمنا منه العمر كلَّه.
اُنظريها وهي تقترب منك أكثر في خنوع، ترفع حفنة من التراب من على قبرك إلى أنفها، تشمّها بعمق ودموع القلب تذرف قبل دموع المقل، فأنتما المقيمتان في ذات الوطن، ولم تهنأ إحداكما بدفء حضن الأخرى عبر الزمن.
يا للزمن…؟؟
ها هي تكفكف دمعها الرقراق وأنفها مغروس في حفنة التراب تلك.
اَنصتي لها عزيزتي.. تتبعيها وهي تردد: يا إلاهي تربُكِ أمي يعبق بعطر زهرتي المفضلة، وزهرتك أيضا كما أخبرني أبي، زهرة النرجس زهرة الحظ في قاموسي، وأيُّ حظ؟
أيُّ حظ هذا الذي تمنحني إياه الحياة فتجعلني أحيا بين قلبين جمعا لي قُربًا وبُعدا، قريبين مني بعيدين عني، لا أعرف عنهما أدنى شيء، ورغم ذلك كنت محور حديثهما دهرا وهما يرقبان أخباري يوما بيوم كأبوين احترق قلباهما على ابنتهما الغائبة..
لا ريب الآن عندي، أنّك هنا ترقدين أمي منذ سنتين، حتى وإن لم تجبْني أنت يا أبي.
أبي، يا من جادت عليّ به أقداري، لمَ لمْ تخبرني حين جمعتني بك الصدفة في يومنا ذاك ؟؟.. أنّك جئت لتقرع أجراس الوداع الأخير، جئت لتقول لمن اعتبرتها ابنتك طوال تلك السنين إني إلى رحيل، فاعتني بنفسك، وحافظي على كيانك، ولا تتنازلي عمن عثرت عليه بعد طول غياب..
ولكنّك يا أبي، يا روحي أنت، تنازلت عنّي بعد أن عثرت عليّ بعد عمر …
لمَ أيها الأب القدري ظهرت فجأة واختفيت فجأتين؟ لمَ…؟ لمَ لمْ تمنحني مقاسمتَك أيامك الأخيرة؟ لمَ آثرت الرحيل وحيدا.. بعيدا.. حاملا بين جنبيك سرّ أسراري؟ لمَ أبي؟ لمَ؟..