اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس
دخلت في لُب الموضوع بعدما تحاشيت النظر مباشرة في عينيه، قلت: ما بيننا يعطني الحق في طلبي، أرجو أن تسمعني، ثم تحلّل كل كلمة أنطق بها، تضعها جوار أخواتها ثم اصنع منها نسيجًا يصلح لتفسير ما أمرّ به، أعلم صبرك عليّ في الأشهر الماضية، لم آتِ إليك سعيًا وراء مشورة أو نصيحة، فقط أن تسمعني، أن تقول، سأتصنع انشغالي وأنت تتكلم، كأنك لا تعنيني بالحديث، لذلك أقولها وأعلنك بها صريحة: اسأل، ولن أجيبك، لكن من صمتي وتراكم تساؤلاتك ستضع أصبعك على الجرح، أكرر مرة أخرى: أنا أدري بِعلّتي، لكني أرغب فيمن يذكّرني بها، من يضعني أمام نفسي، لم أجد غيرك أأتمنه على بعضي!
أجابني باقتضاب وهو يبتسم: حسنًا، سأفعل. ثم نهض من مكانه، أزاح الأكواب والفناجين، سكب بقاياها على الأرض، ثم قلبهم جميعًا على وجوههم، رصّهم جوار بعضهم البعض بمكان يحاذي الرصيف، حينما رضي عن خطوته هذه، التفت بجذعه من جديد، جذب طاولة أخرى من الجوار، وضعها جانب التي تتوسط جلستنا فصارت واحدة كبيرة، حينها نظر إليّ وقال بوقار: اخلع حذائك أولًا ثم اصعد وتمدد باسترخاء، تنفس بعمق، لا تنظر إلى النجوم ولا القمر الباهت هناك ثم أشار بيده، أغمض عينيك، أعد ما قلته من أوله.
– لأني أنا من لجأت إليه، أعرف سلوكه جيدًا، حرصه الشديد على أداء ما يُكلَّف به من مهام على خير وجه، فقد انصعت لأوامره. حين استلقيت، أخذتني رجفة شديدة، شعرت كأنما حياتي كلها تمر أمام عيني في لحظات متتابعات سريعة، لكنّي تمالكت نفسي، تجاهلت الأمر، انطلقت أسرد كل شيء بترتيب أو بعشوائية أقصدها أو بعفوية. قضيت ساعتان أتكلم، الناس من حولنا ينظرون، ينصتون، يتأسفون، يضحكون أحيانا بسخرية، أحسست بذلك على رغم أن عينيّ مغلقتين!
– سألني: مالك؟ ثم أجاب في نفس اللحظة: انقلب حالك منذ سفريتك الأخيرة، ذهبت بحال وعُدت بآخر. أخرج منديلًا ورقيًا ومسح بعض قطرات من عرق تنساح من جبهتي، ثم أكمل: أتصور أنك كما تفعل في كل زيارة لك، تسير ونبوءاتك تسبقك، تراهن نفسك دومًا أنها سوف تتحقق، لم تخب أبدًا، تفرح لعبقريتك في استخلاص الدلالات، استنباط ردود الأفعال، لكنك سرعان ما تنقلب على عقبيك فتغضب وتثور لكرامتك، تقرر ألاّ تكرر فعلتك هذه ثانية، غير أن مكالمة هاتفية رقيقة تأتيك، فتنهار حصونك القديمة، تتهاوى جدران المقاومة، لتجد نفسك في العراء تناجي الريح ولا تسمع غير عواء الذئاب الآتي من بعيد…
ثم سألني من جديد: أتعرف؟، لمّا كان الاتفاق بيننا أنني لن أجبه، فقد ردّ: تتأرجح يا مولانا بين اثنين، كرامتك، رضائك أن تبقى في الظل. تنعم معها ببعض سعادة تسرقها من الزمن، لكنك تنسى ذلك وتفور غضبتك إن استشعرت تجاهلًا، وأذكّرك أنك ارتضيت اللعبة من بدايتها، فكيف ترفض بعض تبعاتها الآن!
فقلت مقاطعًا وقد زاد ألمي من حديثه: هل.. لكن قبل أن أكمل سؤالي عاجلني بقوله: اتفاقنا أن أسأل أنا فقط، فإن نقضتَ العقد ثانية، سأنصرف دون تثريب عليّ أو ملامة؟
– فهززت رأسي كأنما أعتذر إليه، علّه أدرك هذا، فقد استأنف حديثه، قال: الآن هل تلتزم بنصيحتي؟.. لا أظنك ستتجاوز قَدَرْ أبيك “آدم”، فقد نسي من قبل ولم يكن له عزما.
ثم ضربني برفق بأصابعه على جبهتي كأنما يعلنني نهاية الجلسة، فجلست على الطاولة وأظنه سمعني وأنا أقول: لكني لم أقترب من شجرة الخُلد. ما أردت فقط إلاّ أن أستظل تحتها سويعات من هجير صيف قائظ!