صبحي السلماني
اللوحة: الفنان الأميركي جون برامبيلت
وحدها الذئاب كانت ولم تزل تؤرق ليالي الصحراء الوسيعة… فلا الكلاب التي تمثل الطرف الآخر من المعادلة استطاعت أن تُلجم تلك المخلوقات المسعورة وتكبح جماح غرورها، ولا هي القادرة أن تأتي على جميع الخراف، وكأن الطبيعة بتلك المتلازمة أرادت أن تبقي كل شيء على حاله: الذئاب تتربص وتخاتل، والكلاب تهر وتنبح.
ذات صباح من صباحات صيف قائظ ترجل ثلاثة رجال من العجلة التي كانت متموضعة في ظلال واحد من أكوام القمامة التي تحاصر المدينة من جهة البر، الكلاب الكسولة والتي لم تنته من نومها بعد، وهي تتثاءب جرجرت خطاها وأوسعت لهم الطريق الذي يفضي الى المغارة الكائنة في ذروة الساتر الترابي الذي يمتد تاريخه لسنين الحصار.
ولكي تنقل المعركة بعيداً عن أرضها تصدت لهم الأم بكل بسالة، هرّت ونبحت، مزقت ثياب أحدهم وأدمت ساق آخر، وفعلت كل ما بوسعها أن تفعله كأم تذود عن جراها، ورغم خسارتها للمعركة فهي غير ملومة ماذا عساها أن تفعل أكثر مما فعلته.
بعد أن استنفدت كل وسائلها الدفاعية ونال منها التعب انبطحت على الأرض وتمرغت تحت أقدامهم وماءت كما يموء القط الجريح، لكن لا فائدة، لا فائدة ترجى من رجال أكسبتهم قساوة الصحراء كل تلك الغلظة فتحجرت قلوبهم وصارت كأنها قدت من صخر. وأما عن الكلاب المثقلة أجفانها، والتي تبصبص عن بعد رغم وفرتها لم تبرح مرابضها، ولم تكف عن البصبصة، وفي نفس الوقت هي لم تتوقع منهم أن تفعل أكثر من ذلك لأنها متيقنة بأن الكلاب السائبة التي لن تنتخي لبعضها يوماً لا يمكن أن تعرض حياتها للخطر من أجل جرو، ولم تكن بحاجة إلى من يخبرها بأن الاحترام الذي كانت تحظى به من لدن بعض الذكور هو احترام موسمي وزائف وإن طال أمدهُ وإن قصر لن يتجاوز موسم التزاوج.
أمسك الخاطفون بأحد الجراء الأكبر حجماً والأكثر قدرةً على المقاومة والجري، ووضعوه في كيس من الخيش وقذفوا به إلى حوض السيارة، حينها فقط اقتنعت بأن كل شيء قد انتهى وأن المعركة قد حُسمت لصالح الخاطفين.
وربما لأنها تعرف بأن تخوم المدن هي الممول الرئيسي لسكان البادية لكل ما يحتاجونه من الجراء، وإن هذا الحادث رغم بشاعته ربما لن يكون الأخير، وجدت أن لا مناص من الرضوخ للأمر الواقع، حملت بين فكيها أصغر الجراء سناً وبقائمتيها الأماميتين صارت تداري بقية الجراء وتدفع بهم إلى فوهة المغارة.
انطلقت العجلة إلى حيث وجهتها، وبانطلاقتها تحررت الكلاب السائبة من الخرس الذي اعتور حناجرها فلم تكف عن النباح والعويل حتى توارت العجلة عن الأنظار، وكأنها بتلك الطريقة البائسة أرادت أن تعرب عن شجبها واستنكارها لتلك الواقعة الأليمة.
من داخل الكيس ومن خلال الثقوب التي تتخلل نسيج الخيش، بعد أن أصبح أكثر انضباطا وأقل نباحاً، كمن ينظر من خلال غربال بشكل مجسم، كان باستطاعته أن يرى شيء من الوجهين الأشعثين والمغبرين للرجلين المتحلقين حوله. وهو يتلمس جسده الغض من الخارج قال أحدهم:
ونحن نحاول الأسماك به لم يحتمِ بأمه، ولم يفعل كما فعلت بقية الجراء حين أطلقت سيقانها للريح وولت هاربة.
وهذا ما جعلني أكثر إصراراً على الإمساك به دون غيره… رد الآخر ثم أضاف: حين يصبح مؤهلاً لمرافقة القطيع هذا يعني أنه لن يدر ظهره للوحوش ولن يهرب.
وربما وجد أن للحديث بقية ويجب أن لا ينتهِ عند هذا الحد، وهو يمسك بالولاعة ويضغط على طرفها ليعيد الحياة إلى السيجارة التي فقدت جمرتها في ساحة العمليات عاود الأول ليكمل ما بدأه من حديث: سوف أشرف على تدريبه بنفسي وأمنحه أسم يليق به.
وما هو الاسم الذي في بالك ياتُرى؟… سأل الثاني.
ولو أنني لا أود الأفصح عنه في الوقت الحاضر لكن ما رأيك ب(كوثان)؟
(كو ثان)… هم…. اسم لا بأس به لكن لو ترك الأمر لي لأسميته (بطّاح).
ضحكا سويةً ولم ينتهيا من الضحك والهزار حتى صار رأسيهما الاجوفين يتأرجحان على صدريهما، ولم يعد يُسمع إلا غطيطهما وصوت الحداء للرجل المتمترس خلف المقود ويتعقب طريقه الذي يغور كالجرح في جسد صحراءٍ لا تكاد شمسها تغيب.
وهو يرخي أذنيه ويتسمع لشهادة الخاطفين في حقه، والكلمات التي تنطوي على المديح والإطراء استرجع شيء من ثقته بنفسه وصار يشعر بالطمأنينة، لكن الذي جرى بعد ذلك ما إن توقفت العجلة وتم تحريره من كيس الخيش حتى وجد (الساجور) يلتف حول عنقه.
من قبل ربما كان قد سمع عن أمه بأن كلب الرعي يجب أن (يسوجر) ويتدرب، وكسمة تميزه عن الكلاب السائبة يجب أن تبتك أُذنيه لكن أن يجبر على أكلهما… هذا ما لم يسمع به قط ولم يتوقعه.
بعد ثلاثة أيام من الجوع والحرمان وهم يضعونهما أمامه لم يجد مناصاً من التبلغ بهما، وفيما بعد صاروا يقدمون له الطعام لكن بأوقات متفاوتة، ولكي يحمي طعامه من الكلاب المتطفلة والثعالب وجد أن أفضل وسيلة هي طمره تحت الارض (كلب الرعي يجب أن يعرف كيف يعتني بنفسه ويحافظ على طعامه) هذا ما كانت تقوله أُمه، وربما لأنها كانت شبه متيقنة بأن مصير أحد الجراء على غرار السالف من السنين سوف يؤول إلى الصحراء، لم تنس أن تخبرهم بأن حماية القطيع تقع على عاتق كلب الرعي، والكلب حتى يصبح كلب رعي يجب أن يهيئ نفسه لنوبات تدريب قاسية، عدا عن الحرمان من الطعام يجب أن يكون مستعداً للجلد بالعصي، وطرق الأرض من حوله بالأقدام والصراخ في وجهه.
وهو يسترجع تلكم الكليمات من خبايا الذاكرة، لسان حاله يقول: وهل هناك أكثر قسوةً من أن يُجبر الكلب على التبلغ بأُذنيه.
وأما عن فورة غضبها حين تجرأ أحد إخوته وسأل عمن يكون أباه؟ حتى تلك اللحظة لم يجد لها تفسير لكن هل يستوجب مثل هكذا سؤال عابر كل تلك العصبية وكل ذاك الهرير؟! ما الذي قاله حتى يتلق اللطمة تلو الأخرى من قائمتيها، وماذا تقصد وهي تتصفح وجوه الجراء الواحد تلو الآخر، الأسود منهم والأبيض، والأبيض المرقط بالأسود، والصغير ذو الشعر الرمادي، والبقية الباقية حين قالت: ليس بالضرورة أن يعرف الكلبُ من يكون أباه بالنتيجة كلهم كلاب.
لم تأخذ فترة التدريب َوالأعداد مزيداً من الوقت، بوقت قياسي حرروه من قيده وألحقوه بالقطيع، وفي غضون أيام معدودات صاروا يعتمدون عليه في كل شيء، يجمع القطيع ويتكفل بإيصال الطلاء الصغيرة إذا ما تخلفت عن أمهاتها، يتفحص المرعى وما حوله ليتأكد من خلوه من كل ما من شأنه أن يلحق الأذى بالماشية، وفي الليل لا يستكين ولا يغمض له طرف قبل أن ينبلج الصباح، يبحلق في الظلمة وَيُسخّر كل حواسه لتحديد مواقع الوحوش المتربصة ويهاجمها في عقر دارها، وكان لوجوده أثر حسن على بقية كلاب الرعي، وهي تقتدي به صارت على استعداد بأن تضحي بنفسها ولا تفرط بضلف شاة.
صعب الأمر على ذئاب الديرة وصارت تفكر بالرحيل، لكن الرحيل لم يكن أفضل خياراتها لأنها تعرف ان كل الأراضين ممسوكة، ثمة ذئاب أخرى ومثلها من الكلاب تتقاسمان أطراف الصحراء، انقسمت إلى مجاميع صغيرة وصارت تغير على القطعان في أوقات متفرقة من الليل والنهار لكن دون جدوى، في كل مرة كانت تعود إلى أوجارها ببطون خاوية.
على هذا النمط كانت تسير الأمور قبل أن تظهر سنداوة، وهذه السنداوة ذئبة ذكية وشجاعة وإلا ما معنى أن تغير لوحدها على غير العادة التي دأبت عليها الذئاب منذ الأزل لتراود القطيع المستكين في حظيرته، فتولي هاربة حين ينبري لها كوثان ولكن ليس ببعيد، فلا هو القادر على الإمساك بها، ولاهي التي عن ناظريه تغيب، تراوغ وتخاتل وتتمرغ، تدس خطمها بين قائمتيها الأماميتين وترفع مؤخرتها إلى فوق وتتمطى، ولا تكف عن التمطي حتى يستوي صدرها مع الأرض، وكلما اقترب منها تجفل لبضع خطوات ومن ثم تعاَود التمطي من جديد. وفي كل ليلة تغدو وأخرى تجيئ يقتربان من بعضهما أكثر، وخطوة بعد خطوة، وهمسة بعد همسة صارت له القدرة على التهجي في حروف لغتها، ويوم بعد آخر صار يكتشف بأن الحياة ليس كلها عواء ونباح وهرير، وأن ليس كل الوحوش وحوش، وهو يتأمل جمال عينيها ودقة خصرها وقوائمها الممتلئة وقوامها الممشوق في أرضٍ لو قدر لقدم كلبة جرباء أن تطأها لتقاتلت من أجلها كل كلاب الديرة.
وهو الذي لم يزل مراهق بعد حين وجد أن كل هذا الجمال ينثني في حضرته ويداعب أكثر أجزاء جسده ذكورية، صار على استعداد لأن يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين ويتبول على جميع القيم والمبادئ الكلبية التي تربى عليها وهو في كنف أمه، أو تلك التي أكتسبها في بيت سيده. وفي نهاية المطاف لم يكتف برفع إحدى قائمتيه والتبول على القيم والمبادئ الكلبية، بل صار يرفع قائمتيه الأماميتين ويمارس الحب مع تلك المخلوقة الجميلة بعد أن مكنته من نفسها، وما أن تمكنت منه حتى صارت تجرجره أنى ومتى تشاء. ذات ليلة وهو يجري خلفها استدرجته إلى ما وراء التلول البعيدة، وعلى ذروة إحدى الروابي صارا يمارسان هوايتهما المحببة، ولم ينتهيا من بعضهما حتى لاحت لهما الخيوط الأولى من الفجر، في تلك الأثناء كانت الذئاب الجائعة قد تسللت إلى الحضيرة وانفردت بالشياه، اقتادت بعضا منها وفتكت بالبعض الآخر، حينها فقط صار يدرك بأنه وقع في الفخ، وأن كل الذي جرى بينه وبين سنداوة من قبل ما هو إلا تمهيدا لتلك الليلة المشؤومة. لحظتئذ استشعر بأن لا أمل له بالبقاء في بيت سيده، وحتى لو تنازل عن شيء من كبريائه ورمى بنفسه على أحد الرعاة في مكان آخر لن يستقبله أحد لان من عادة سكان البادية التوجس من الكلب (الهديفة).
لم يبق أمامه إلا المدينة مسقط رأسه، على تخومها وجد الكثير من الكلاب السائبة التي اتخذت من تلك المناطق الآسنة موطناً لها، بعضها سليمة والبعض الآخر نال منها الجرب، لكن السليم منها والأجرب عيونها تربو إلى المدينة وبفارغ الصبر تنتظر حلول الظلام.
وهو يراقب تلك المخلوقات البائسة عن كثب والتي لم تكترث لوجوده ولم تستنكر، لم يستطع التعرف على إخوته من يدري ربما فتك بهم المرض المستشري، وربما أجبرتهم الظروف إلى النزوح إلى أرض أخرى غير أرضهم، أما بالنسبة له فهو متأكد بأن ليس بمقدور أحد أن يتعرف عليه بعد أن فقد أذنيه وصار أصلم. وهو يستطلع المكان لعله يتعرف على بعض المعالم التي لم تزل صورها عالقة في ذهنه، لفت انتباهه جوقة كلاب تلتف حول كلبة، وحين دنا منها وصار على بعد مرمى حجر أُصيب بالخيبة حين وجد أن تلك الكلبة ما هي إلا أمه. من يدري ربما يكون أبوه على رأس تلك الجوقة! …. هكذا صار يفكر.
أي عهر هذا وأية دياثة؟! ياللعار.
حينها فقط أدرك السبب الحقيقي وراء سورة غضبها حين تجرأ أحد إخوته ليسأل عمّن يكون أباه.
وعلى الرغم من أن بقاءه في تلك البيئة الملوثة بالوسخ والرذيلة لم يدم طويلاً، لكن على قلتها لم يستطع أن يكبح جماح فضوله حين وجد الكلاب مع الساعات الأخيرة من النهار تتسلل فرادا إلى داخل المدينة، وهو يلتحق بها كان يمني نفسه برؤية الكلاب التي تشبه القطط أو الخراف كما يصفها البعض، والتي لا أحد يصدق أنها كلاب إلا حين تهر أو تنبح، لكن وللأسف لم يجد أمامه إلا الكلاب التي سبقته تجوب الأزقة والدرابين، تمد أخطامها في حاويت القمامة وتفتش بين الأسمال البالية والمناديل الورقية المتكورة على بعضها والمتيبسة، والحفاظات المعبئة ببراز الصبية ودماء الحيض، لعلها تعثر على شيء ما تقتات عليه.
هل يعقل هذا، كان يقول في داخله، هل يعقل أن تمسخ الشخصية الكلبية بهذه الطريقة المهينة والمذلة، وحتى لا يجد نفسه يوماً ما مضطراً لأن يدس خطمه في حاوية ما، قرر أن يعود من حيث أتى.
وهو الذي خبر الصحراء لم يكن بحاجة إلى دليل يرشده، كان يسير بلا هدف وينام بلا أحلام ويأكل بلا شهية يغذ السير في النهار ولا يتوقف إلا حين يشتد القيظ، وفي اليل ينصرف إلى مطاردة الثعالب والأرانب البرية، حتى أنه لا يدري كيف ومتى وصل إلى ذات الرابية (رابية سنداوة) كما كان يحلو له أن يسميها.
من علو وهو يتأمل حزم الضوء الهاربة من فتوق الخيم أو التي تنبعث من المصابيح اليدوية للرعاة وهم يلملمون أطراف قطعانهم، ويصيخ السمع كله لفوضى الثغاء والنباح والأصوات الآدمية التي تحث النعاج على ترك حظائرها والانتظام مع القطيع، تملكه شعور بالأسى فلا هو الذي استطاع ان يحافظ على مركزه في الوسط الكلبي، ولا هو الذي احتفظ بسنداوه.
صحيح أن للصحراء قوانينها الصارمة والمتحجرة والتي لا تجيز إلا للرياح وأروقة الخيم والكثبان الرملية أن تبرح مواقعها أو تغير من اتجاهها، وما سواها كل شيء يجب أن يبقى على حاله، الكلب يبقى كلب، يجب أن يعيش بلا قلب، بلا مشاعر، بلا إحساس وينصرف للحراسة والنباح ومقارعة الوحوش. وهو يقفز من فوق تلك القوانين وحده طيف سنداوة بعينيها بخصرها بقوائمها ما انفك يداعب خياله.
لم يخبره أحد بأن سنداوة قد حلت عليها لعنة الصحراء، كبير الذئاب وهو يحكم عليها بالموت كان متيقناً بأنها ما كانت لتقدم على فعلتها إلا من أجل القطيع الجائع، لكن الشرف حين يُثلم… ومع من؟… مع كلب! لا يمكن التهاون حياله في أي حال من الأحوال.
كوثان العاشق، بعد أن تعطل الكثير من حواسه الكلبية بسبب الجوع والتعب والقهر، والتي كانت بمثابة جرس إنذار بالنسبة له لم يعد يكترث كثيراً لما يدور حوله، وهو يضرب أخماساً بأسداس كانت الذئاب قد أحاطت به واشتبكت معه في معركة ضارية دارت رحاها على رابية سنداوة. وكاد أن ينتصر لولا قوانين الطبيعة التي لا تجيز لكلب منفرد أن يهزم قطيع من الذئاب.
الساجور: طوق من الجلد يربط حول عنق الجرو ويتصل بسلسلة من الحديد.
الكلب الهديفة: هو الكلب الذي لا يعرف عنه أي شيء.