أيمن جبر
اللوحة: الفنانة السعودية خديجة الزين
عندما تصل الحافلة إلى محطة نقل الركاب؛ هناك عوامل تتحكم في سلوك الركاب وأخلاقهم، عندما يكون عدد المقاعد مساو لعدد الركاب؛ سوف ينبعث بينهم عبير الإيثار، الحِلم، احترام المرأة والطفل، الشهامة ومكارم الأخلاق، وعندما تكون المقاعد أقل من عدد الركاب بدرجة مقبولة؛ هناك أمل أن تستمر نفس الحالة الأخلاقية بين الركاب، أما عندما تكون الحافلة ممتلئة عن آخرها؛ قعودا ووقوفا وعلى السلالم؛ بينما في الخارج يوجد العشرات الذين يريدون الصعود بأي ثمن لكي يصلوا لمصالحهم، هنا تَنضغط الأخلاق وتُمتحن، فلا يَنجح سِوى أندر النوادر؛ وهم الذين تشبثوا بوعيهم وعزلوه عن الواقع شديد الانضغاط والحرارة.
وتحت سيطرة مشاعر التهديد والخيار الوحيد، يتسابق الإنسان للصعود، وفي طريقه يدفع النساء والأطفال، وفي نفسه غير مصدق تلك القسوة والخشونة التي تنفلت منه، هذا السيناريو هو التفسير لما هو عليه حالنا، تدور أخلاق مشوهة بين أغلب الناس، كل واحد يتبرأ من الآخر، يوبخ الآخر، يَضيق بالآخر، يتفاقم الشعور بأن تلك الأخلاق المنضغطة هي أصل أصيل وجينات وضيعة في الشعب، وأن الحل الوحيد أن يقوم كل فرد بنفسه بمهمة مراجعة ضميره الفردي وتقويمه، وبهذا يغمر الشعب الشعور باليأس؛ لأن الحل الذي يُفترض أنه الوحيد، يُعتبر مستحيلا، فلا توجد أمة استقامت أخلاقها اعتمادا فقط على الضمير الفردي، لا بد من عامل ضابط من الرقابة وإتاحة الفرص بدرجة معقولة من المساواة، ونتيجة لتوهم الفشل؛ تنتشر بين الجميع كلمات ومشاعر جلد الذات، مناخ القِلة، وخاصة التي تصل لدرجة الندرة؛ يُفسد الأخلاق ويَنشر الحرص والقسوة والطمع والنفاق، يُضعف الضمير وتتكون فئة تستأثر بالقليل المتاح؛ وتنال شرفا مزيفا، ثم تستعلي به على بقية المحرومين، فيتولد صراع نفسي قد يتطور لصراع مادي وبدني بين الناس.. مناخ الوفرة، على العكس من مشهد القلة، حيث تمتلئ النفس بالرغبة في الحياة، التعايش المشترك، تبادل الود والعون، تعود الشهامة والكرم، تعم الأخلاق الفاضلة، يرحل عن دنيا الناس أخلاق الجُبن والنفاق ورذائل الأخلاق.
في كتاب «خاتم في إصبح القلب» لعبد الوهاب مطاوع، قصة كتبها «تشيكوف»؛ طبيب متوسط الحال في قرية، في الرابعة والأربعين من عمره، ظل ثلاثة أيام يحاول إنقاذ طفله الوحيد ذا الست سنوات من حمى الدفتريا، أسلم الطفل روحه بين يدي أمه المريضة والمنكوبة، في تلك اللحظة طرق بابه شاب ثري، أخبره أنه بينما هو وزوجته وصديقهما يتناولون الخمر، أُغشي على زوجته، فتركها مع صديقه وأسرع إليه لطلب إسعافها، ورغم إخبار الشاب بالمأساة التي حدثت منذ دقائق، قام بالضغط على الطبيب ليأتي معه، حيث لا يوجد طبيب غيره، يذهب معه الطبيب، ويصعد الشاب إلى زوجته ثم يهبط جَزعا، يخبر الطبيب أن زوجته وصديقه قاما بتلك التمثيلية ليهربا معا، أخذ الشاب يَهذي ويَنتحب ويَشكو مأساته، قال له الطبيب: «وما ذنبي في قصتك هذه، ابني مات وزوجتي مريضة ولم أنم منذ ثلاثة أيام!»، فلما أسهب الشاب في الهلوسة والثرثرة تحت تأثير الصدمة القوية، قال له الطبيب: أنتم معشر الأثرياء تغوصون في حياة الرفاهية وتستحقون ما يحدث لكم من خيانات وأفعال شيطانية، ذُهل الشاب لرد فعل الطبيب غير المتوقع، سأله باندهاش عن معنى كلامه هذا!، فانفجرت ثورة الطبيب المَكلوم أشد عنفا وراح يواصل هُجومه العنيف على الشاب وطبقته المُرفهة وآلامها المفتعلة، قاطعه الشاب مدافعا عن نفسه وقال: أنا تعيس مثلك!، فيضحك الطبيب باحتقار ساخرا من هذه التعاسة المزعومة التي لا تقاس بتعاسة التعساء الحقيقيين في الحياة، ويتأزم الموقف بينهما إلى أقصى حد حتى يكادا يتضاربان بالأيدي، وتبلغ الازمة قمتها حين ينثر الشاب أتعاب الطبيب على المائدة، فيقذف الطبيب بها على الأرض رافضا هذه الإهانة الجارحة، ويتطور سيناريو التراشق بالإهانات.
يخرج تشيكوف بالحكمة التي أراد أن يُلقنها لنا؛ «التعساء أنانيون ظالمون قساة القلب، وأقل قدرة على فهم بعضهم بعضا، التعاسة لا تجمع بل تفرق!، وتشابه البلوى الذي ينبغي أن يربط الناس، أحيانا يبعث شرورا قوية بسبب عدم قدرة الفرد على تحمل مأساته ومشاركة مآسي غيره ولو بالعاطفة المجانية»
المثل يقول: «المصائب يجمعن المصابينا»، ولكن الإنسان ضعيف وله طاقة، وعندما يُمتحن كل إنسان بمأساة تثقل كاهله، يتباعد الناس، ويَضعف التواصل المادي والعاطفي بينهم، يغوص كل منهم في داخله، ويبرز الأنا وينفرد.. ليست القلة فقط تمرضنا بأخلاق الأتوبيسات، ولكن الأحمال الزائدة في الحياة، تضعف الأخلاق وتُلين الضمير وربما ينهار بسببها.
***
مر زمن انتشرت فيه ظاهرة ضحايا طوابير العيش، كان الناس يتزاحمون أمام الأفران لينالوا نصيبهم من الخُبز المدعم، ومن المعلوم أن صاحب المخبز يقوم بخبز جزء بسيط ثم يقوم بتسريب عدة أشولة دقيق ليبيعها لمحلات الخبز غير المدعم أو لمحلات المخبوزات والعجائن، ونظرا لحرص الفقراء على أن لا يقعوا في المشهد المحبط حينما يقول لهم الخباز: «العيش خلص» فيحدث تزاحم وتشاحن وعراك وفي حالات ليست بالقليلة يتطور انفلات الأعصاب إلى درجة جَرح أو قتل أحدهم.
وفي هذا المشهد هناك طريقتان لضبط هذه المشكلة، الأولى كانت الرقابة التموينية، وهي كانت مستأنسة ومعصوبة الأعين، والثانية: أن يقوم الأهالي بأنفسهم بمنع تسريب الدقيق، فيقوم الشباب برصده وهو يتسرب من الباب الخلفي وإبلاغ الشرطة، أو يتجمهر الناس وتفتضح السرقة، ولكن هذا أيضا لم يحدث، الذي كان يحدث هو الاستسلام للمناخ الأتوبيسي وما يفعله بنا.. وتكرر نفس المشهد مع أنابيب البوتاجاز، وسقط قتلى، والكل يعلم أن هناك أنابيب تُسرب إلى سماسرة يقومون بتوصيلها للأهالي المقتدرين بثمن أغلى، وإلى أفران القطاع الخاص.
هناك نكتة تقول إن إحدى السيدات حينما كانت تنشر الغسيل بالدور العلوي، انفلت المشبك من يدها، فقامت في حركة عصبية لا شعورية بمحاولة الإمساك بالمشبك فاختل توازنها فسقطت من أعلى فكان حتفها.. سواء كان الحتف بسبب مشبك أو خبز أو أنبوبة؛ سوف يكون الثمن فادحا والسبب بسيطا وأحيانا تافها.
الأخلاق الأتوبيسية مثل الغاز المثير للأعصاب، لا حل له سوى الكمامة، والكمامة التي يجب أن تستخدم هنا هي كمامة «الوعي والتعاون»، الوعي يقاوم التهديد المباشر للأنا، ويستدعي الإيثار والإيمان والنبل، ويبتكر وسائل للتغيير بضغط مجتمعي، وكلما زاد الأبطال النبلاء الذين يقدرون على هذا الجهاد، كلما كان لهم تأثير في الناس وقوة.
التعاون يُقصد به أن يحاول الناس معا تنظيم أنفسهم، فمهما كانت الظروف ضاغطة، فلا بد من أن نعلم أن انفلات تلك النفوس يزيد الأمر سوءا، ومثلما ينصح به في حالات الطوارئ كالحريق أو الزلزال، فلو تُرِكَ الناس للهلع والذعر؛ سوف يتصادمون ويتزاحمون ويتساقط بينهم القتلى والمصابون، ولكن الهدوء والوعي والتعاون يجعلهم جميعا يمررون تلك اللحظة الحرجة ويخرجون بسلام.
جيد … أحييك وأشد على يديك بحرارة .
إعجابإعجاب