حين تتحول الحياة إلى خديعة

حين تتحول الحياة إلى خديعة

أيمن جبر

اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس

في فيلم “شعبان الفارس” بطولة “أحمد آدم”، يدخل مسابقة تمثيلية يُظهر فيها أقصى شجاعة وتهور، تصاحبه الكاميرا كظله أينما سار، يأمل في نهاية المغامرة أن ينال الجائزة الكبرى.

يركب عن طريق الخطأ سيارة تتجه إلى ارتكاب جريمة، يصرخ فيه الناس إنه لا يوجد كاميرا؛ وأن الرصاص المنطلق تجاهه حقيقي؛ والرصاص الذي يُطلقه أيضا حقيقي، وليس “فشنكا” كما يَظن، ولكنه يتجاهل الجميع، فكلهم أوغاد مدسوسون ويريدون إفشاله وخروجه من السباق.
ولأنه مندمج في غفلته، يتلاعب به الأشرار ويستغلون سذاجته، فكان مغامرا بنفسه في كل خطوة يخطوها؛ وهو لا يدري!

هذا الساذج العنيد أخذ معلومة وسار عليها دون مراجعة، وأخسر الناس من لا يراجعون أنفسهم دوما.

في الفيلم الشهير عرض ترومان «Truman Show» بطولة جيم كارى، شخص يعيش حياة عادية، له طموحات وأحلام وأهداف، يكتشف أنه نجم أشهر “برامج تلفزيون الواقع”؛ التي تبث على مدار أربع وعشرين ساعة إلى كل الناس في الأرض، بدأ العرض التليفزيوني المباشر، منذ ولادة ترومان، فكل ما في حياته مصطنع ومدروس، الناس والأحداث وكل شيء، اكتشف أن مدينته وعالمه ما هو إلا استوديو كبير، الكاميرات مسلطة عليه في كل مكان!! نعم كل مكان!!، حياته مخترقة بالكامل، في السرير، في الحمام، خارج البيت الخ.

المشتركون في القناة التليفزيونية يتابعونه كظله منذ ولادته، تجني القناة التليفزيونية من ورائه أموالاً طائلة. 

هذا الشاب كان يعتقد أنه يعيش حياته هو، وفكره هو، ومشاعره هو، لم يكن يخطر بباله أنه يُلعب به بتلك القسوة، يعيش في عالم غير حقيقي…عالم مدروسة فيه ردود الأفعال.

يقوم المخرج كل وقت بإضافة توابل تثير الجمهور، يُلقي إليه طُعما سواء كان؛ مالا أو فتاة أو أي حدث مصطنع، يعيش البطل التجربة المقتحمة حياته ويعاني أو يتمتع، والملايين يَتَسَلُون بقصته ويراهنون عليه.

يتوهم أنه يعيش الواقع، وأنه يعيش حياته وليس حياة في دماغ مخرج البرنامج.

في النهاية يكتشف الخدعة ويمتلك من الشجاعة والحكمة أن يهرب من الاستوديو الكبير ليبدأ حياته الخاصة الحقيقية.

كم كانت صدمته حين أدرك الحيلة؟.. وكيف يكون شعوره حين يدرك الحيلة في سن الشباب؟ في سن الرجولة؟.. في سن الشيخوخة؟ لا بد أن الألم والحسرة يتضاعفا كلما نظر وراءه ثم أمامه، يقيس ما ضاع وما بقى من العمر، فمن أفاق في سن الشباب غير من أفاق في شيخوخته، لكن على أي حال؛ اليقظة مكسب كبير.

فربما لديه من الوقت لينبه الآخرين؛ كي يغادروا مبكرا بقية الاستوديوهات الأخرى؛ التي سجنوا فيها وهم لا يشعرون.

هذه الفكرة تجسيدا لفكرة فلسفية جديرة بالاهتمام والبحث وخلاصتها، أننا ربما نعيش حلما وليس واقعا، وربما نحن نعيش في عقل أكثر وعيا منا بمراحل كبيرة، هو الذي يفكر ويقرر ونحن استجابة لأفكاره ورغباته.

هناك بعض المتسابقين الذين يتناولون المنشطات التي تعينهم على الجري لمسافات طويلة، أخذ أحدهم منشطا، وظل يجري حتى سبق الجميع. واختفوا عن نظره، وكلما شعر بالتعب يتناول جرعة من العقار المنشط، ثم يجري، والواقع أن السباق قد تغير مساره، وتاه عن المتسابقين وخرج من السباق وهو لا يدري، ويظن أنه في المقدمة، ويظل وحيدا في هذه الدائرة التي لا تنتهي، يتناول المنشط ثم يجري؛ ثم يتعب؛ فيتناول المنشط ثم يجري، حتى أصبح لا يدري؛ هل يتناول المنشط ليجري؟ أم يجري ليتناول المنشط؟ وتاه عن الطريق، وتاه عن السباق، وتاه عن الهدف.

في المثال الأول شخص يتوهم نفسه في استوديو بينما يلعب بالنار كما يقول المثل. 

في المثال الثاني شخص في استوديو وهو لا يعلم. 

في المثال الثالث شخص عنيد أدمن العدْو بلا هدف وأدمن معه المنشطات. فأصبح أسير لتلك الثنائية.

ما هو شعور الإنسان النبيل الحامل لفكرة دينية أو وطنية أو قِيمية؟ يقضى عمره يتصدر المخاطر معتقدا أنه يتطوع لها بدلا من قومه.

ما يريح ضميره أنه يرى نفسه على الحق، وأنه إن سقط في أي مرحلة من حياته؛ سوف تكون له العاقبة عند الله خير الجزاء؛ ويكون مثلا لقومه في الثبات على الحق، يدعو أصحاب الهمم من الشباب لينضموا معه في دعوته النبيلة، ويحلم أن يتضاعف الجهد وينتشر ما يظنه الوعي.

لكنه في مسيرته لا يجني سِوى الفشل! يبتلى هو ومن معه، بل ويبتلى قومه معه وبسببه!، وفي كل مرحلة فشل يستدعى إيمانه بربه وبقضيته النبيلة، يُرجع كل ما يحدث إلى أن هذا الطريق هو طريق أصحاب الدعوات النبيلة. وأن الابتلاء هما إلا امتحان الصبر والرضا كثمن للنصر الموعود. تناله وتنال أصحابه وتنال قومه؛ بلوى وراء بلوى، لا يفكر أن هذه المصائب ما هي إلا أسباب أخرى، غير أنها سنة السائرين على طريق الحق. والبلوى ربما في أفكاره أو في الأيدلوجيا التي يحملها، أو في اعتقاده أن لا بد من البلوى، أو أنه أصبح بلوى تمشي على الأرض وهو لا يدري.

ماذا حين تتضاعف المصيبة ويكتشف أنه كان يسير طوال حياته بجهاز تتبع!. جهاز يُرشد خطواته، ويُسجل حواراته وخُطَطه وأفكاره!

يُلهم من يراقبه ويَسمعه بكل ما يُبطل سعيه، فيستثمر خصومُه كل خطواته وأفعاله وأقواله ضده وضد قومه ولصالح الأشرار، يكتشف أنه أصبح عميلا مزدوجا رغما عنه بغفلته وحُمقه. وحين يكتشف تلك المصيبة عليه أولا أن يتوقف، أن يسترجع الشريط السينمائي للماضي كاملا، فهذا الاكتشاف يوجب عليه أن ينظر بفهم مختلف، وربما بفهم معكوس، يدرك أن الذي كان يدافع عنه بقوة، وأن الأفكار والمواقف التي تلهمه ما هي إلا تلقين ودفع مخطط من خصم مجهول أو معلوم، لكي يسير في مسار يضره ويصب في مصلحة الخصم.  وأنه يندفع بكل حماس يندفع بتهور إلى البلوى التي ستناله وتنال قومه، فكل أفكاره وخطواته كما يقولون مذاعة على الهواء. ولا يحلم أي خصم بأكبر من أن يكون خصمه بتلك السذاجة.

يتوقف ثم يراجع ثم ماذا؟ يغادر الاستوديو الذي انزلق بداخله رغما عنا، ثم ينزع جهاز التتبع والتجسس الذي زرع في جسده.

وما هو جهاز التتبع الذي يزرع فينا؟ 

هذا الجهاز وهذا الاستوديوا وتلك الكاميرات تتلخص في كلمة واحدة: «الأيديولوجيا» 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s