هناء غمراوي
اللوحة: الفنان النمساوي فريدريش أميرلنغ
عندما أحاول استرجاع علاقتي بالكتاب، غالباً ما كنت أتوقف عند محطّاتٍ كثيرة من طفولتي؛ فوالدي رحمه الله كان مولعاً بالقراءة، بالرغم من أنه لم يحصل على درجة عالية من التعليم. وكذلك أمي التي كانت ترضي شغفها الى المعرفة عن طريق السماع. وكنت في طفولتي المبكّرة كثيراً ما أغفو على صوت والدي وهو يقرأ فصولاً من سيرة عنترة، أو تغريبة بني هلال. وكان ينشد الأبيات الشعرية الواردة فيهما بلحنٍ خاص يبتدعه هو، وتطرب أمي لسماعه.
لم يدخل التلفاز الى بيتنا بسرعة شأن باقي بيوت الجيران، والعائلات المحيطة بنا. وكان ذلك بناءً على قرار اتخذه الوالدان معاً. كان هذا الجهاز الحديث بنظرهما مدعاةً لتضييع للوقت، وسبباً كافياً لإلهائنا عن متابعة تحصيلنا الدراسيّ بالشكل المطلوب.
نشأت بيني وبين القراءة علاقة حميمة منذ الصغر، ربما غذّتها الظروف المحيطة، ولعبت دوراً كبيرا في إرسائها.
كانت أمي صارمة في تربيتها لنا، فاللعب مع البنات من هنّ في مثل سنّي ممنوع. والنزهات، ما خلا مرافقة الأهل لزيارة الأقارب والأصدقاء قليلة. أما أماكن اللهو والترفيه التي يذهب اليها الصغار اليوم؛ فكانت محصورة بالأعياد وبعض المناسبات.
خلال العطلة الصيفيّة، كانت القراءة تسليتي ومتعتي المفضّلة. ولم يكن لديّ القدرة ولا المعرفة في اختيار ما أقرأ. فكنت أقرا كل ما كان يقع بمتناول يدي. وحيث أن أختي الكبرى كانت مولعة بالقراءة أيضاً، فكانت تواظب على شراء مجلتيّ العربيّ، وحواء. ما أتاح لي فرصة التجوّل داخل تلك المجلة، ذات الاهتمامات النسائية البحتة، والتي لم يلفت نظري من محتواها سوى ما كنت أواظب على قراءته في كل عدد تحت عنوان؛ “مشاكل المرأة على الشاشة” فاطلعت على الكثير من تلك المشاكل في وقت مبكر جداً. وكانت تلك الزاوية تُعنى بالتعليق والاشارة إلى آخر عروض الشاشة الكبيرة في صالات مصر آنذاك. عنيت مجلة حواء بالطبع.
أما مجلة العربي فكنت اكتفي بقراءة “العربي الصغير”، التي كانت تُرفق مع كل عددٍ منها.
حدث ان تقدمت شقيقتي التي كانت في المرحلة الثانوية آنذاك، الى مباراة في التعبير الكتابيّ نظمتها إحدى المؤسسات الثقافية في المدينة. وفازت بالمرتبة الثانية، وكانت هديتها مجموعة كبيرة من الكتب الأدبية والروايات..
وحيث اننا لم نكن نملك مكتبة في المنزل؛ فقد عمدت أختي الى وضع كنزها الثمين في خزانة صغيرة “كومودينة” تنازلت لها عنها الوالدة مع المفتاح حيث كانت تحتفظ داخلها ببعض الزجاجيات الثمينة..
ذلك الصيف لم تعد تشغل بالي أعداد مجلة حواء المكدّسة في زاوية الغرفة، ولا قصاصات العربيّ الصغير! اتجه نظري الى الكنز الجديد الذي دخل بيتنا، وكيفية الوصول اليه. الخزانة مقفلة بالمفتاح، والمفتاح في حوزة صاحبة الكنز! وانا لا أملك سوى الترقب والانتظار.
كانت الجائزة التي حصلت عليها أختي مجموعة كبيرة من الكتب الأدبيّة، والرّوايات. والحقيقة أن ذاكرتي لم تعد تسعفني الآن لأتذكر عددها، أو حتى بعض العناوين..
كل ما أذكر منها، كان كتاباً ضخماً تزيد صفحاته عن الخمسمائة صفحة. لا أعلم ما لفت نظري اليه! هل كان حجمه؟ أو العنوان؟ أو ربما الاثنان معاً.
كان ذلك الكتاب؛ هو رواية “أولاد حارتنا”؛ للكاتب الكبير نجيب محفوظ، الذي أثارت روايته جدلاً كبيراً في الأوساط الدينية والثقافية نهاية القرن الماضي. والذي لم أكن قد سمعت باسمه من قبل. وكما يحلم الأطفال بعرائس السكر، كنت أحلم بالحصول على ذلك الكتاب، وقراءته. أخيراً اهتديت الى طريقة للسطو على كنز أختي المخبأ دون حاجة للمفتاح، الذي كانت تحتفظ به باستمرار.
كنت أثناء غيابها أسحب الدرج العلويّ للخزانة وازيح القفل بواسطة اليد، ثم أسحب “أولاد حارتنا” واختلي به في احدى زوايا الغرفة لساعات؛ مستغلة غياب شقيقتي، التي كانت غالباً ما تذهب للمدينة لزيارة بعض الصديقات أو قضاء بعض الأشغال. وكنت انا استغل هذا الغياب في السفر مع صيدي الثمين، الذي أنهيت قراءته ذلك الصيف، ولم اك قد اتممت الثانية عشرة من عمري بعد. وقد تم ذلك بالتواطؤ مع أخي الاصغر، الذي طلبت منه أن يخبرني بعودة أختي الى البيت لأتمكن من إعادة الكتاب، دون أن تلاحظ أيّ شيء.
بعد سنوات قرأت تقريباً معظم نتاج نجيب محفوظ. دون أن اقترب من ذلك الكتاب، الذي أعدت قراءته بعد ذلك مرّتين؛ مرّة وانا على عتبة الثلاثين، ومرة ثالثة وأنا أقترب من الخمسين. ولكني اعترف الآن وبكل صدق ان متعة القراءة الأولى ما زالت ترافقني الى اليوم. وما زالت الأحداث والأسماء، التي وردت فيه؛ كالجبلاويّ، وقاسم، ورفاعة، وأدهم…ترد في ذاكرتي، وكذلك الأمكنة؛ البيت الكبير، الخلاء، الحارة. تلك الأماكن التي رسمتُ لها صوراً في ذلك الوقت، واحتفظت بها في رأسي الصغير.