اللوحة: الفنان الإنجليزي كونروي مادوكس
يكره حامد، الجدل والمجادلين، لطالما أسرَّ إليّ غير مرّة أنه يمقت حذلقة المثقفين وذكر صراحة أن كراهيته تزداد لمن يرتدون نظارات طبية رفيعة.
لكن على رغم ذلك فهو يعشق حتى النخاع أن يخطب في الناس، فما إن يتأكد من التفاف جَمْع حوله حتى ينطلق في غزواته الكلامية، فتنتفخ عروق رقبته من الحِمْية، يغمره العرق من فرط الحماسة التي تسيطر على حواسه حتى لو كان الموقف في عز “طوبة”.
ماهر في لضم وصلات حديثه المتقطعة تحت وطأة أنفاسه اللاهثة بسبب سمنته المفرطة بلازمة لا تفارقه “وَصَلت”، يقولها للسامعين كأنما يضع خاتم صلاحية منطقه على الحديث. حينما يستشعر في أعين أحدهم أن ثمة ريبة تساوره، سرعان ما يُلقي حامد، في وجه ضحيته بعبارته الناهية “مات الكلام”.
ما أكثر ما قُتلت أحاديث تحت وطأة منطق هذا الرجل، فهو لا يعمل حسابًا لوجهة نظر تجاوره أو تمر بالقرب منه. لا يجد حرجًا أن يٌعلن دومًا سخطه على المثقفين، ويصمهم بأنهم سبب الخراب، ويؤكد أنهم يقفون خلف كل نكبة.
“مات الكلام”، عبارة مقتضبة قاطعة، لا تملك حيالها إلاّ أن تقرأ الفاتحة جهرة على وقت أضعته في محاورة من طرف واحد، فإن هممت بالانصراف، يشيّعك بنظرته الساخرة، التي تعقبها عبارته اليتيمة: “وَصَلت” فتهز رأسك، كأنما تقول نعم، ثم تلعن “إبليس” في سرّك بما شئت.
زيجة مباركة
أخبرني هاتفيًا والسعادة تقفز من بين ثنايا حديثه: قرأت بالأمس الفاتحة لخطبة عروس جديدة. وأكمل وصوته يضج بالفرحة: أخيرًا عثرت على من تناسبني، قالها ثم سرد على سمعي مشوارًا طويلًا قطعه بمفردة عقب وفاة زوجته قبل عشر سنوات، ثم عن رحلة شقاء خاضها آخر ثلاثة أعوام في البحث عن نصف آخر يُكمل معه بقية الطريق.
ظهيرة اليوم كنّا جميعًا نصطف أمام نعش يحوي جثمانه الضئيل، بعد كثير من مصمصة الشفاه، قليل من حوقلة، قرأنا على روحه الفاتحة.