أيمن جبر
اللوحة: الفنان الأميركي أليكس أرشانسكي
في أول يوم لي كمعلم، سمعتهم جميعا يمتدحون المدير كأهم شخصية في المدرسة، لكني استشعرت من كلامهم غمزا ولمزا ومعاني بين السطور. في لقائه كان رقيقا وحلو اللسان، لكني أحسست من نبرة كلامه أن حلاوة لسانه هي خليط من أشياء لزجة، تطلق نظراته رسائل متناقضة، مثل من يتوعدك مبتسما أو من يسبّك وهو فاتح ذراعيه ليضمك في حنان.
جاءني أحد المدرسين يعلمني بقوانين المدير الخاصة، نسبة من الراتب تعطى لوسيط بيننا، هذا مقابل التساهل في الحضور والانصراف؛ والتغاضي عن التقصير في الشرح للطلبة، أجبته أنني لن أقصر في عملي وسألتزم بالمواعيد الرسمية للعمل، قال هذا لمصلحتك، كلنا نحتاج هذه التسهيلات كي نتمكن من الالتزام بالدروس الخاصة، كلنا يقصر في الشرح كي نُجبر الطلبة على اللجوء للدرس الخاص، الفترة الدراسية راحة لأبداننا المنهكة وأعصابنا المستنزفة طوال النهار وحتى آخر الليل.
أجبته أنني بالفعل سوف أعطي دروسا ولكني سألتزم بمواعيدي وبالشرح بكل أمانة للطلاب، لست في حاجة لدفع تلك الإتاوة.
انخفض صوت الوسيط واتسعت عيناه قائلا: هناك أمر آخر لم أذكره، أنت تحتاج لأن يكف عنك شره، هذا ليس بالأمر الهين. فهمت ما يلمح إليه، ولكني أصرّيت على موقفي.
في الصباح، في أول حصة لي دخل المدير للتفتيش، قام بتقديمي للطلبة وتهنئتهم بفوزهم بمدرس ممتاز مثلي، ألقى على الطلبة بعض الأسئلة وتدرج فيها حتى فاجأهم بمسألة حسابية عويصة، لم أدر من أين أتى بها، ربما من كتب الألغاز الرياضية التي تتفنن في هذه الأسئلة، عندما عجز الطلبة عن حلها، تنحى جانبا وطلب منهم الإنصات لي وأنا أحل المسألة، وضحك وضحكوا وسال عَرقي غزيرا واحمر وجهي، ولأول مرة أذوق الشعور بالرغبة أن تنشق الأرض وتبتلعني.
كان من عادتي الحضور مبكرا، وذات صباح تأخرت قليلا، كنت أقف أمام البوابة قبل موعد إغلاقها بدقيقتين، فإذا بالمدير يأمر بإغلاقها ثم يختفي من المشهد الذي تَصدره الحارس، اعترضت قائلا: إنها أغلقت قبل الموعد، وأريته ساعتي، لم يلتفت إليها وقال في استعلاء: “ساعتك تؤخر الوقت”؛ طلبت منه أن يدخلني فلا يصح إيقافي بين التلاميذ هكذا، لم يرد، تركني والطلبة يتزايدون من حولي ويتزايد حرجي. جاء المدير بعد وقت يسير، حضوره كان كافيا لبلوغي قمة الشعور بالمهانة، وبخ الحارس وأنذره ألا يكررها، فلا يليق بالمعلم أن يُمنع من الدخول مثل الطلبة، أقسم لي بأغلظ الأيمان؛ أن هذا السلوك من الحارس بدون علمه، مررت من البوابة وقد نفذت الطعنة الثانية في قلب كرامتي، علمت فيما بعد أنه كافأ الحارس بكرم حاتمي.
تكررت محاولاته إهانتي دون أن يتصدر المشهد، هذا تلميذ يقدم شكوى ضدي؛ يفتري عليّ بأنني أضغط عليه لنيل درس خاص، مدرس أخر يتودد لي وينبسط في حديثه؛ ثم على غفلة مني يكشف أنيابه؛ ويشكوني في مذكرة رسمية، أحاطني تماما الشعور بالذل والقهر، غمرني الشك في كل شخص وكل شيء، أصبحت متوجسا ومرتابا فارتبكت ردود أفعالي وطاشت كلماتي بين الطلبة والمدرسين، أصبح النوم عسيرا، قادني الأرق إلى تقصير شديد في عملي، وشذوذ في سلوكي، أصبحت أخرقا أمام الجميع، زادت نقاط ضعفي وكثرت عثراتي.
تقدمت بطلبات للنقل، كان المدير سدا منيعا بعلاقاته أمام الموافقة على أن أفلت من قبضته، فهو يعلم أنني سوف أتحدث عنه في كل مكان بمجرد الخروج من دائرة سلطته، فحبسني تماما؛ لن يقبل إلا استسلامي الكامل.
ذهبت إلى صديقي المقرب، أيقظته في وقت متأخر من الليل، قلت له: جئت إليك وأنا كلي رعب من الانهيار، أوشك أن ارتكب غلطة عمري، لقد قمت بشراء فِرفر “وهو سلاح ناري من طلقة واحدة يصنع في الورش”، سوف أتربص به وأقتله سرا لأشفي غليلي وأرتاح من هذا العذاب.
أنصت إلي صديقي مندهشا، فلم يكن يعلم أن صديقه، الذي عرفه منذ الطفولة بتدينه وميله للمسالمة، قد يصل به الأمر إلى تلك الدرجة من الانهيار، لكن القهر يُخرج الوحوش من الصدور.
قال لي: هون على نفسك؛ فلست وحدك، أطلب منك فقط أن تؤجل قرارك عدة أيام، لنفكر في عاقبته، ونحاول إيجاد بدائل قد تُغني عن هذا التهور.
استسلمت له، ثم مضينا عدة ليال متتالية معا في النقاش.
بعد أيام ذهبت للمدرسة مبكرا، توجهت لحجرة المدير الذي كان من عادته البكور ليحصي على المدرسين هفواتهم، الغرفة خالية إلا منه، دخلت عليه وأغلقت الباب، توجهت إليه مسرعا، أخرست المفاجأة المدير، اقتربت منه، وقلت له: لقد قهرتني؛ لم تحسب حساب غضبي، وكنت أنوي قتلك، لكني أكتفي مؤقتا بهذا كعربون عسى أن ترتدع، وصفعته صفعتين على وجهه فكاد أن يقع أرضا؛ ثم انصرفت سريعا مستغلا وقع المفاجأة التي جعلته يتسمر في مكانه، حاول أن يستوعب ما حدث، فقد صَفعه شاب في عمر أولاده دون شُهود، فماذا يفعل؟ إن أعلن ما حدث؛ فسوف تكون نكته المدرسة، فالجميع يخشونه ويكرهونه، وانتشار تلك الحادثة يجعلها مثل حكايات أبي زيد الهلالي التي تلوكها الألسن. فتنال من هيبته، ولن يخسر سواه، إذن ليكتم ما حدث، وليغير معاملته مع هذا الشاب الذي لا يأمن ردود أفعاله.
مرت الأيام وتغير الحال واسترديت كرامتي، وفي نهاية العام حضر صديقي المقرب صاحب ذلك الاقتراح العبقري حفلة تكريمي بلقب المدرس المثالي، وكان السيد المدير هو من رشحني لهذا الشرف الكبير، والذي سلمني الوسام وهو يحتضنني في أبوة وحنان.