صبحي السلماني
اللوحة: الفنان الروسي فيكتور بوريسوف موساتوف
في واحد من أكثر المواقف غرائبية، وهي تطوح بجسدها من نافذة الغرفة المطلة على الشارع في الطابق العلوي، لا أحد يدري أهي كرامة؟!
أهي صحوة الموت؟!
أم كُشف عنها الغطاء على حين فجأة كما يقولون، وإلا ما معنى أن تُختزل كل تلك الذكريات الكأداء المطمورة تحت ركام السنين، وتتكوم فوق رأسها مرة واحدة.
عبود الخباز، الرجل الطيب قبل أن يتجرد من طيبته وينال شرف الكلبية… أليس هو من كان يدلعها بـ (شوشو) ويداعب ضفيرتها اليتيمة التي تتدلى على وسطها من الخلف، وينحني بكل تواضع وإجلال ليقبل رأسها ويحملها قنطار سلام لأببها قبل أن يناولها الأرغفة؟!
ما حدا مما بدا في تلك الصبحية ذات الغبش كي يطبق بشفتيه المتخفيتين خلف جناحي غراب على شفتيها النديتين؟!
عن طريق الخطأ؟!
همم… ربما، الليل دغوش والخطأ وارد.
على أكثر تقدير هذا ما كانت تعتقد به، وإلا ما معنى أن تبقى متسمرة في مكانها دون أن تحرك ساكناً. لكن حين وجدت أن اليد التي كانت تداعب ضفيرتها المتدلية على وسطها من الخلف تلتف حولها وتضمها إلى صدره. واليد الأخرى تطوف بين أليتيها، حينها أدركت نوايا ومراد الرجل الطيب!.
قبل أن يتمكن منها بخت في وجهه كالقطة وأوسعته سباً وتقريعاً. لم تخبر أحد بتلك الحادثة، لسبب ما وربما بدون سبب أخفت هذا السر في صدرها ولم تصرح به لأحد.
وحكاية أمها المسكينة مع أبيها المخمور أبداً والمتسكع، تلك الحكاية التي لاكتها الألسن، ودارت حولها رحى القيل والقال لبضع سنوات، وبسبب تلك الحكاية وما يكتنفها من غموض وغرائبية تم نقلها إلى أحد المصحات العقلية بعد أن عجز الأطباء بوسائلهم، والعرافين بمعرفتهم أن يجدوا لها تفسيراً إلا أن تكون مجنونة.
أمرأه تنفر من زوجها ليس بسبب إدمانه على الخمرة أو التسكع… لا، بل لأنها اكتشفت في عينه اليسرى صورة لفتاة متعرية حسب ما تدعي، وعلى قدر ماهي واثقة من صحة ادعائها، تصف طولها وعرضها ولون عينيها وطبيعة شعرها وغمازتي خديها.
ولأن مثل هكذا رواية كفيلة بأن تستفز بعض المتطفلين وتشكل إغراءً كبيراً لهم كي يتطلعوا في عين الرجل، إلا أن أحداً لم يؤكد صحتها، وفي آخر المطاف حتى هي صار لديها شك في قدراتها العقلية، وبهذا يكون طابع الجنون قد أُلصق في مؤخرتها، وصار الصبية كلما خرجت إلى الشارع يهرولون خلفها ويهتفون: مجنونة… مجنونة.
وحتى شيرين، حين وجدت نفسها أعجز من أن تكبح جماح فضولها قررت أن تتقصى عن الحقيقة بنفسها، وحين أُتيحت لها الفرصة كانت المفاجأة صادمة بالنسبة لها لأن الذي رأته في عين أبيها ليس صورة لفتاة متعرية، ولا غمازات ولا أي شيء من هذا القبيل، كل الذي رأته صورة كلب ذو شفتين متخفيتين خلف جناحي غراب، وحين تمعنت بالصورة أكثر وجدتها تحمل بصمة عبود الخباز!.
لكن من عساه أن يصدق تلك الرواية التي لا تقل غرائبية عن رواية أُمها!.
ولكيلا تدع مجالاً للمتشدقات من النسوة والمتقولات أن يرقصن على إيقاع (كب الجرّه علا تمه… البنت ابتطلع لا أمه) ويهززن مؤخراتهن، مرة أخرى قررت أن تدفن هذا السر في صدرها ليصبح فيما بعد مقبرةً للأسرار.
بعد حفنة من السنين، وبعد أن طُويت صفحة الصبا والمراهقة، وصفحة عبود الكلب، والأم المجنونة التي ذاع خبر وفاتها، بخطا متسارعة شيرين، وجدت نفسها تلتحق بكوكبة العوانس اللواتي أخطأهن النصيب. وضعت يدها على خدها وصارت تنتظر متى يأتي النصيب، متى يأتي فارس الأحلام على صهوة جواد أبيض ويردفها خلفه ليغيبا خلف الأفق البعيد على رأي بعض الأفلام الهندية. لكن هذا الفارس الذي طال انتظاره والذي لا وجود له إلا في مخيلتها، إن لم يكن قد أظل الطريق وتاه في البراري فقد أكله الذئب. ولكيلا تصاب بخيبة أمل قللت من سقف توقعاتها. وهي تهبط من ذروة الجبل إلى قعر الوادي، كانت تقول في داخلها: ماضر هذا الفارس لو أتى على ردف حمارة أو زحفاً على بطنه أو سيراً على الأقدام.
لكن من أين يأتي هذا الفارس يا ترى، من لم يلق مصرعه في الحرب، أما أن يكون قد ركب البحر وهاجر إلى المجهول، أو أصبح بمزاج لا يسمح له أن يفكر في الزواج.
وأما عن المتطوعين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة التصدي لظاهرة العنوسة، وعمدوا بالخفاء على إعداد قوائم طويلة وعريضة بأسماء وأعمار ومؤهلات وأرقام هواتف أخواتهم في الدين، كانوا يصطدمون بعقبات كثيرة لأن أغلب الذين يرومون الزواج عن طريقهم يبحثون عن مواصفات ومؤهلات غير موجودة.
فهذا معتل الصحة ويبحث عن زوجة تجيد زرق الأبر وتحسن قياس الضغط والسكري ومعرفة انواع الأدوية وأوقات تناولها، وذاك لديه زوجة وربما أكثر لكنه يرى بأن العدد المسموح به لم يكتمل بعد. وآخر يمني نفسه بصبية كي تعيد له شبابه. وأما عن المعطلة قدراتهم الجسدية فهؤلاء بحد ذاتهم مشكلة، لأن لا أحد يعرف ماذا يريدون ولا هم يعرفون. وبالنتيجة فإن القائمين على هذا الأمر ليس لديهم العصا السحرية كي يسيّروا الأمور كما ينبغي لها أن تسير، ويبقى الزواج قسمة ونصيب، وإلا ما معنى ان يتزوج ذاك الكهل من تلك الصبية التي لم تتفتح براعم أنوثتها بعد، وأبوها من تلك الفتاة التي لم تزل في طور المراهقة، وفلان من فلانة.
وعلى ذكر زوجة أبيها، والتي هي بعمر ابنتها لو قُدر لها أن تتزوج، حسب التقاليد والأعراف صار عليها أن تتعامل معها كأم… شيء مضحك أن يتخذ المرء من هو أصغر منه سنّاً أباً له أو أماً، وهي تتصدى لها عن قصدٍ أو دون قصد:
- صباح الخير يا أمي
- صباح الخير
- كيف حالك يا أمي؟
- بخير
- مبروك عليك الزواج من أبي يا أمي
- شكراً
وهي ترد بشكل مقتضب، لم يكن يخفى على شيرين بأن تلك المراهقة ترد عليها بجفاء فاضح، لكنها أرادت أن تعطي لنفسها فسحة من الوقت كي تتعرف على حقيقتها وتقطع الشك باليقين، لأن شيء ما في تلك الفتاة كان قد لفت انتباهها، وهي تتمعن بطولها وعرضها ولون عينيها وطبيعة شعرها والغمازتين اللتين في خديها، تلك المواصفات بمجملها هي ذات المواصفات التي ذكرتها أمها من قبل وهي تنظر في عين زوجها!.
هل يعقل ان تكون تلك الصورة لهذه الفتاة… لا لا… مستحيل.
وكمن يحاول أن يكذب عينيه، مرة أخرى أعادت الكرة وتمعنت فيها بتركيز شديد!.
نعم هي، لا يمكن أن تكون إلا هي!.
شيء غريب!.
لكن الشيء الأكثر غرابة وجعلها تسقط من طولها حين عرفت بأن تلك الفتاة ماهي إلا كريمة عبود الكلب!!.
ياسلااااام!.
أي قدر هذا، يا لسوء حظك يا شيرين.
وهي التي من يومها لم ترَ وجهه، بعد المصاهرة سَتُشرع أبوب التزاور على مصراعيها، ويصير من حق الأب أن يزور ابنته وهي في بيت زوجها متى شاء.
من جديد بدأ شبح عبود الكلب يطاردها في النهار ويقضُّ مضجعها في الليل، بنبرة كلها فجور وخسة من خلال الجدران الصماء والأبواب الموصدة ينفد صوته الأجش ليجثم على صدرها ويحبس أنفاسها ويحاصر روحها، وإذا ما تسلل الكرى إلى أجفانها ينسلخ من خلال العتمة ليجردها من ثيابها ويلتهم شفتيها بشفتيه المتخفيتين خلف جناحي غراب، تفز من نومها مرعوبةً، تشعل النور وتبقى مستيقظة حتى الصباح.
ساءت صحتها وخف سمعها وشاخت ذاكرتها ونحل عودها بسبب الخوف والسهاد وتقادم السنين. وما صاحبها من وجل وأحلام وأوهام، وفي الايام الأخيرة اعتل مزاجها بشكل مرعب وأصبحت أكثر عدائية، تمزق ثيابها وتحطم كل ما يعترض طريقها من أواني منزلية وعدد، وإذا ما كلمها أحد أو حاول أن يقترب منها تصرخ في وجهه وتهاجمه، حتى إن البعض صار يعتقد إنها ركبت السكة التي ركبتها أمها من قبل، ولم يبق بينها وبين أن تصبح مجنونة بشكل رسمي سوي أربعة أصابع. لكن الذي جعلها تبدو أكثر هدوءًا وأقل عدوانية في ذلك الصباح هو الصوت الآتِ من العالم السفلي، عالم الأرصفة وباعة الخردة والشحاذين حين طرق مسامعها، ينادي عليها باسمها وبإلحاح يحثها على النزول، ولأن هذا الصوت لم يكن غريباً عنها، وقفت على رؤوس أصابها واشرأبت بعنقها من خلال النافذة المطلة على الشارع، كانت هناك، نعم امها هناك، تجلس على الرصيف وامامها بساط وعلى البساط بضع من النقود المعدنية…
وضعت يدها على صدرها وشهقت:
أمي… أمي لم تزل على قيد الحياة، وتستجدي!
يا إلاهي كيف يكون هذا، ولكي تتأكد بأن الذي رأته ليس مجرد حلم تراجعت قليلاً وفركت عينيها، ثم عاودت النظر من جديد وصرخت؛ لا، ليس حلماً، إنها امي… نعم امي!
هدأت قليلاً وبلغة العاقلين صارت تتساءل: لكن ماذا عن خبر وفاتها الذي شاع في كل الحارة؟!، ماذا عن شهادة الوفاة المصدقة والمختومة من الجهات الصحية؟! من جاء بها ومن له مصلحة في ذلك؟!.
هو… نعم هو… أبي… لا أحد غيره له مصلحة في ذلك!.
ولكيلا تضيع الوقت في تساؤلات لا قيمة لها على الأقل في الوقت الحاضر، بقدمين حافيين ورأس حاسر وشعر منكوش وثياب ممزقة، عبر السلالم نزلت مسرعة إلى الرصيف، لم تجد إلا الشحاذين الذين أكدوا لها بأن لا وجود لأي امرأة بينهم على الأطلاق، لأن هذا الرصيف حسب التقسيم الجديد للجهات المختصة صار من نصيب الرجال وليس النساء. لم تقتنع، وكيف لها أن تقتنع، وهي تشير بيدها وتحاول أن تقنعهم بصحة كلامها:
هنا… هنا كانت… قبل لحظات كانت هنا… لقد رأيتها بأم عيني، ما بالكم تتغابون!.
ولاعتقادهم بأن تلك الأنثى بهذه الهيئة المرتبكة والأسئلة الغريبة والألفاظ النابية لا يمكن أن تكون إلا مخبولة، أشاحوا بوجوههم عنها وانصرفوا إلى عملهم الذي لا يحتاج إلى رأس مال أو جهد بقدر حاجته إلى إراقة ماء الوجه وعاهة مصطنعة وبضع كليمات تنم عن الفاقة والعوز.
صعدت إلى غرفتها مكلومة الفؤاد مكسوفة الخاطر، ولأن الصوت الذي يحثها على النزول ما أنفك يستدعيها مرة أخرى، توجهت إلى النافذة ومرة أخرى كانت امها تجلس في نفس المكان الذي كانت تجلس فيه أول مرة، ومرة أخرى نزلت ثم صعدت ثم نزلت…!، وما بين الصعود والنزول خارت قواها، واختل توازنها وقبل أن تسقط تمددت على سريرها.
صحيح أن الموت لم يكن خيارها الوحيد، لكن خيار البقاء بعد الذي ألم بها أمر وأصعب، وإذا لم يكن من الموت بد فحري بالمرء أن يُعجل به ويتجرعه دفعة واحدة لا أن يتجرر به أو يتذوقه بطرف لسانه، وهي تتخذ قرارها الحاسم، أرادته أن يكون دفعة واحدة. لملمت أطرافها وشحذت آخر قطرة عزم متبقية لديها، ألقت بجسدها المتضعضع من خلال النافذة على بساط التسول، بساط أمها الممدود على الرصيف.
لكن الذي جرى لها أثناء السقوط شيء لا يُصدق، قبل أن يستقبلها عبود بذراعيه العظيمتين، وهي التي تسمع ولا تُصغي وتنظر ولا ترى، في لحظة من أكثر اللحظات تجلياً صار باستطاعتها أن تسمع هسيس الرمل ودبيب النمل وفرقعة أصابع الشيوخ، وتبصر ما وراء الحجب وترى النجوم في وضح النهار، وتتذكر كل ما استقفل عليها تذكره من قبل!.
حينها فقط فهمت الحكاية، لكن الذي لم تفهمه تلك المتلازمة بين السقوط من علو والزواج من كلب.
ألم أقل لكم أن الزواج قسمة ونصيب!.