قراءة في لوحة «يوم الحساب» للفنان أحمد نوار

قراءة في لوحة «يوم الحساب» للفنان أحمد نوار

ياسر جاد

لوحة «يوم الحساب» رسم بالقلم الرصاص على ورق. إنتاج 1967 – مقاس 9.76 م × 2.75 م مقتنيات متحف الفن المصري الحديث

تبقى النهاية واقعة لا ريب فيها. وحتمية لا مفر منها. ومفهوما فرض نفسه دون عنوة. فلم يغفله دين. ولم تعاديه حضارة. ولم يتغاضى عنه مجتمع. بل ولم ينكره بشر. وربما اختلف الخلق فيما يلي تلك النهاية. ولكن انقسامهم جاء بين قلة تنكر ما يليها. وأنه بوقوعها يحدث الفناء المطلق. والصمت المطبق. والسكون غير المتبوع بحراك. وعودة العناصر إلى أصلها ومنشأها. وبين أغلبية أقرت بل وتكاد تكون قد اجتمعت على مشهد يلي تلك النهاية. في ملحمة طغت على كل الملاحم. واجتماع تفوق في اكتماله على ما دونه. وحضور لم يغب عنه فرد. واصطفاف أجبر عليه كامل الخلق. وقد اختير لذلك المشهد موقع. ووقت له موعد. وأنتقى له يوم. ووصفت له الصفات واﻷسماء. وظل أهل الغلبة يصفونه بمرادفات عدة. أرجعها كل منهم إلى منهجه ويقينه، ودعوته ودينه. فذهب بعضهم إلى أن يكنوه بيوم الفصل، والبعض بيوم الميزان، والثالث بيوم اﻹله. والرابع بيوم الحقيقة.. إلخ من تسميات. وأخذوا في تهذيب واختزال شروحاتهم عن وصفه ومفهومه من واقع استيعابهم للغرضية منه. إلى أن استقروا وأجمعوا على تسميته بيوم الحساب استنادا إلى تسمية وردت بالمتون السماوية (لكتب والصحف السماوية).

وقد جاء اللقاء القدري بين طالب الفنون الجميلة أحمد محمد إسماعيل نوار، وبين الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور والصحفي بمجلة (آخر ساعة) آنذاك الأستاذ طارق فودة. تحت سقف كاتدرائية القديس بطرس في روما. جاء هذا اللقاء كحجر الأساس والبداية لبناء وإبداع هذا العمل المهيب (يوم الحساب). والجميع يتطلع لروائع العظيم مايكل أنجلو. واستطراد الكاتب الكبير أنيس منصور في سؤال استنكاري. هل يمكن أن نرى فنانا مصريا في عصرنا هذا يبدع مثل هذه الروعة؟. جاء سؤاله خاطفا ومتبوعا باستكمال حديثه. وكأنه لا ينتظر إجابة من الجميع. وهنا بدأت الفكرة تهاجم عقل وموهبة الطالب أحمد نوار. وبدا له ذلك التحدي الصعب. ومجرد محاولة المحاكاة لمثل مفاهيم أعمال مايكل أنجلو في حد ذاته هو منحة وجائزة، ومعضلة يشك هو نفسه في مجرد إنجاز ما هو على غرارها. وحمل أحمد نوار في عودته مع حقائبه حقيبة ذلك الحلم وهذا التحدي. وعلى الفور بدأ عقب عودته بجمع أدواته المفاهيمية والاستيعابية، وتذخير دوافعه من خلال بحثه واطلاعه وغوصه في كل ما ذكر عن (يوم الحساب) في المتون الدينية على تنوعها من يهودية ومسيحية وإسلام. وكل ما ذكر من أراء وروايات عن ذلك اليوم الجلل. وبقي القرار باختيار الوسيط. والذي ربما حسمه بداخله تخصصه في قسم الجرافيك، والذي يلعب فيه الرسم دورا رئيسيا ومحوريا، فكان القرار بالرسم من خلال أقلام الرصاص والتي وصل عدد المستخدم منها إلى ما يوازي 500 قلم رصاص وكان السطح من خامة الورق. وكان قرار القياس في العمل قرار جريئا. فهو يقع في حيز مسطح يقترب من الثلاثين مترا مربعا. بطول مستعرض يقترب من ال 10 أمتار طولية وارتفاع يقترب من الثلاثة أمتار طولية. وقد تعرض منها جزء يوازى قياس (3.66م × 2.75م) للفقد أو السرقة أثناء وجودها في كلية الفنون الجميلة قبل إهدائها لمتحف الفن الحديث. كما طالتها حالات الإهمال. إلا أنه تم ترميمها بشكل جيد. وقد جاءت مناسبة العمل للطرح من خلال مشروع التخرج الخاص به أيضا أحد القرارات الموفقة من الطالب أحمد نوار. وجاء إنجاز العمل في مدة اقتربت من الشهور الستة. تخللتها فترة توقف أحدثتها حرب الخامس من يونيو 1967 والتي أصابت كل المصريين بالصدمة..

وقد أتى توقفي أمام رائعة الفنان الكبير أحمد نوار والتي أسماها (يوم الحساب) مختلفاً عن وقفاتي أمام العديد من الأعمال الفنية القيمة والثرية. والتي يزخر بها التشكيل المصري الحديث والمعاصر. ولا أنكر أن دوافع التوقف لدي كان أولها اندهاشي من تلك الحالة البانورامية الصادمة والمركبة التفاصيل والعلاقات والتي أجبرتني على التوقف لاحتواء العين لما هي بصدده. وكان ثاني هذه الدوافع هو تلك الحالة من الجذب والثى وجدتني أستسلم لها، لأجدني مغمورا بيقين وجودي داخل أحد صالات المسارح، متطلعا إلى خشبته المستعرضة والثى مثلتها لوحة (يوم الحساب). فاللوحة رغم ما فيها من استعراض لعنفوان شاب موهوب يمارس خليطا متنوعا من مكتسباته الفنية واﻷكاديمية بطزاجة استمرت مع العمل حتى بعد انقضاء ما يقرب من عقود خمسة. والثى حملت تجانسا بين تطبيق عملي ﻷسس التصميم، واستعراض لمهارات الرسم والتشريح، وبيان عملي ﻹيجاد الظل والنور، وتناول لجانب ذو علاقة باﻷبعاد والمناظير. كما أنه مارس تطبيقا بديعا لما أسميه (سينوغرافيا المشهد الجامع لدراما متصلة). وكذلك أثبت أن العمل الجيد يجب أن يسبقه تلك الحالة من التوحد مع مفاهيميته. إلا أن العمل قد حمل ما أراه يأتي على درجة من اﻷهمية تفوق كل ما سبق. وهو ذلك اﻷسلوب المتسق والمتناغم والمتشابه بين العناصر والشخوص من جهة، وبين الظل والنور من جهة أخرى، وبين المفهوم والرمز من جهة ثالثة. كما حمل العمل حلولا أخرجت الطالب أحمد نوار من إشكاليات تجسيد ما يمس الذات اﻹلهية وحضرتها من جهة رابعة، وذلك من خلال ما أستطاع صياغته من رمزيات ذكية متأدبة. كما ذهب إلى تطعيم العمل وترصيعه من خلال مسحات سيريالية رقيقة، كانت بمثابة ممرات للهروب من إشكاليات التجاوز والخوض من وجهة نظر البعض، ناهيك عن الاتساق مع المفهوم وعدم إفلاته. وتبقى ما تبثه اللوحة في نفس المتلقي من عمق وواقعية الإحساس بمشهد ذلك اليوم وهيبته. فقد تفوق الطالب أحمد نوار على نفسه، وصاغ محاكاته لتلك البانوراما البشرية ولكن من وجهة نظره الخاصة، وبأسلوب يحمل جينات خطية تشتق من أسلوبه. وأستطاع دخول عالم التشكيل من خلال حصوله على تأشيرة مفتوحة. وعبوره إليه من خلال قوس نصر بناه بجهده، وبإتباعه طرقا كلاسيكية تتخللها حيل المدارس والأساليب الحداثية بحرفية بالغة وبتوظيف خادم لمفهوم العمل وأسلوب التناول. وأتت اللوحة بمثابة تلك الموسيقى التي تصاحب عبوره لتلك البوابة. 

وبالدخول إلى المتن البصري للعمل. نجدنا أمام تلك (السينوغرافيا) المركبة المشهد. والمزدحمة المنظر. والتي تحمل جدية الفنان في التعامل مع ما هو بصدده. فالعمل في مفهومه قد صادف شخصية مبدعه المنمقة والمهندمة والثى لا تغفل أدق التفاصيل. وقد استطاع في بداية الأمر أن يضع خطة عمل قريبة الشبه بتلك الخطط والمخططات المعمارية في دقتها. فصنف الحدث في هذا اليوم الطويل والممتد والذي تخفى معلومية مدته وساعاته في علم اﻹله الخالق. وقسمه إلى ثلاثة مشاهد لا غير. فالاحتمالات هنا غير واردة الخروج في مشهد واحتمالية رابعة. فجاء المشهد الرئيسي في العمل بنسبة توازى تمام النصف من كامل المشهد، وجاء انتصافه موازيا ومعبرا عن منصة القضاء التي انتصفت هي الأخرى برمزية كرسي العرش الذ ينطلق منه النور ليضيء المشهد، كما جاء ليعكس العديد من المفاهيم، كالمساوة والعدل. وجلوس الذات الإلهية للقضاء بعدلها بين البشر. وجاء النصف الآخر مقسما إلى نصفين، جنة إلى يمين الكرسي. وجحيم إلى يساره وكل منهما يمثل ربع المشهد وكأنهما في نسبة وتناسب هندسيتان يتناغمان مع مفهوم اليوم. ويعكسان أيضا مدى ما للعدالة من هيمنة في ذلك اليوم.

ويأتي المشهد الرئيسي لنجد فيه أرض المحشر والحساب تجمع البشر في موقف واحد يتساوى فيه الخلق في وقوفهم. وفى أعلى منتصف العمل يأتي ما يناسب ويوافق ويدلل على رمزية كرسي العرش. وهو يشع نوره ليضيء أرض الحساب. فلا شمس ولا قمر ولا نجوم لإيجاد مصدر الضوء، سوى نور اﻹله رب الأرباب والحاكم بأمره على عباده ومخلوقاته. وعلى يمينه ما يوقع في الفهم طريقا منيرا إلى الجنة، وعلى اليسار ما يوافق ممر شبه مظلم أو خافت يشير إلى النار. والبشر وقوفا مشدوهين ومذهولين من هول الموقف وما هم فيه من مشهد. استطاع نوار أن يصنع قوالب التعابير على الوجوه ليظهر أهوال المشهد، ويصدر من خلالها ما يمنح المتلقي ذلك الخيال في تصور تفاصيل ما وراء الظاهر من المشهد. وجاءت دراسات الظل والنور في أجساد البشر غاية في التوفيق ومانحة المشهد اقترابه من الواقعية. كما أظهرت التعبيرية في مجمل المشهد مهارة الفنان الشاب أحمد نوار في توظيف مفهومه عن تلك المدرسة الفنية وإيجادها في المشهد كحل أمثل وناطق، أعتبره أنا بمثابة الخلفية الصوتية التي تلف المشهد. وأسمع من خلالها تلاحق الأنفاس تارة. وصمت احتباسها تارة أخرى، فجميعها في حالة ترقب تقترب من الخوف أكثر منها إلى حالة شعورية أخرى. فهذا يوم الفصل والحصاد ونتيجة الاختبار، فما هي سوى لحظات أو دقائق أو ساعات تفصل الجميع، إما عن الوصل مع الضحكات والراحة والسعادة الأبدية في الجنان. أو ارتفاع اﻵهات والصياح والصراخ مع اﻷنات في الجحيم المقيم. لقد استطاع الفنان أحمد نوار أن يصنع نموذجا يعكس قاعة المحاكمة اﻹلهية في هذا اليوم العصيب. ويبتكر من خلال خليط فني ومهاري يجمع الواقعية والسيريالية والتعبيرية كأدوات لسينوغرافيا مشهده الرئيسي. 

ثم نلتفت يمينا نحو مشهد جانبي يمثل ربع اللوحة ويرمز إلى الجنة. وأجد بصري يدخل ذلك المشهد من أعلى جهة اليمين حيث ذلك المخرج القادم من على يمين كرسي العرش في اللوحة الرئيسية. ونجد عليه ذلك الملاك الجالس في ارتياحية وكأنه يمثل مراسم استقبال الوافدين، ويرشدهم إلى ما أوحى لنا به نوار مما وقع في خياله الذي أنتجه من مدخلات بحثه واطلاعه ويقينه، ومرجعيته مجتمعين عن واقع سينوغرافيا الجنة. كما جاء الملاك معبرا عما يرادف شكل (القابلة). والثى تستقبل مولودا جديدا في عالم أبدى. وقد مارس نوار سيرياليته في إيجاد ما يشبه الغرف التي تضم أهل الجنة وفى إيجاد ماهية الملائكة وأشكالهم وإقبالهم على أهل الجنان. ومارس التعبيرية في هدوء الملامح وإظهار المسرات على تعابير الوجوه. وجاءت رمادياته فاترة هادئة لتنم عن السكينة بعد طول عناء.

ثم نلتفت يسارا واصلين إلى المشهد اﻷخير في ذلك العرض وتلك البانوراما البديعة. نصل إلى ما أعتبره نهاية ذلك اليوم المشهود. إلى ذلك المشهد في السعير. والذي أبدئه بصريا من جانبه الذي يقع على يسار كرسي العرش في المشهد الكبير باللوحة الرئيسية. والذي يبدأ بنهاية هذا الممر الموحش المؤدى إلى مدخل الجحيم، والذي يستقبل الداخل فيه اثنان من الزبانية يقومان بسحب الداخلين إليه بتلك السلاسل ﻹجبارهم على الدخول. وكما جاء مشهد الجنة ليصدر منازلها. جاء مشهد النار مرادفا في تلك السمة من وجود مراتب ومنازل. ترك الفنان الشاب أحمد نوار تصنيفها وتراتبيتها إلى المتلقي، ليسميها حسب ما تراكم في ذاكرته عنها من واقع مرجعياته. لقد مارس نوار عرض وجهة نظره وصياغته وتركت موهبته العقلية المساحة للمتلقي للمشاركة في فرضياته الخاصة به. لقد أتى الفنان أحمد نوار المشهد إتيان المتمكن والمستوعب لما هو بصدد صياغته. ووازن أسلوبه الذي مارسه في المشهدين السابقين من ممارسة لمسحات التعبيرية والسيريالية وإيجاد العلاقات العضوية ﻷجساد وأجسام البشر والملائكة والزبانية. وكذلك صاغ العلاقات الخاصة بأبنية الجنة والنار، وكذلك أرض المحشر من خلال أسلوب غير متوقع، وأعتقد أن إتيانه لهذا اﻷسلوب جاء نابعا من منطقة مجهولة بداخله، كما أكاد أجزم بأن ذلك المشهد مكتملا هو ما كان في انطباعه عن صفة هذا اليوم وعناصره وسينوغرافيته. فهو لم يفتعل، فقط ترك قلمه ينفذ إسقاط عقله وخياله وما استقر في نفسه من تصور عن هذا اليوم. وهو بذلك سجل نموذجا سيرياليا حقيقيا من وجهة نظري. لم يلجأ فيه إلى المبالغة أو الفجاجة. بل ترك أعمدة الجرافيت الخمسمائة ينجزون أوامر عقله وحسه وما أستقر في يقينه عن ذلك اليوم. 

وتبقى في قراءتي المتواضعة والمختزلة لمثل هذا الطرح الرائع والاستثنائي والطازج عنصرا هاما وجوهري في هذا العمل الراقي التناول، والمحمل بفلسفة ذات علاقة بالعمق والتبحر في ماهية الطرح. وهو عنصر اﻹضاءة. هذا العنصر الهام في هذا العمل. وقد اعتبرته من أقوى سمات العمل ليس من الناحية التقنية والمهارية فقط. ولكن من الناحية المفاهيمية. فاﻹضاءة مثلتها هنا تلك المسطحات البيضاء التي لم يقترب منها الفنان تارة. ولامسها برمادياته المتدرجة تارة أخرى. كما أنه تعامل معها على مستويين رئيسيين. 

الاول: في تعامله معها كمصدر. وتمثلت في الصادر من كرسي العرش في اللوحة الرئيسية. 

والثاني: في تعامله معها كانعكاس. وهو ما تجلى في نورانية الجنة وملائكتها في اللوحة اليمنى الممثلة للجنة. وما كان من نارية أجساد الزبانية في اللوحة اليسرى الممثلة للنار والسعير. فقد وجدت عبقرية العمل المفاهيمية في تلك الجزئية الهامة والمحورية، فالنور يقع في فهمنا عند ذكر الله وذكر الجنة وأرضها، والنار تقع في فهمنا بمجرد ذكر السعير والجحيم. وكلاهما يمثله هذا اللون اﻷبيض بتدرجاته عن تعاملنا باﻷبيض واﻷسود، فالأبيض في رمزية الكرسي مثل النورانية ومصدرها. واﻷبيض في الجنة مثل انعكاس النور من مصدره ووقوعه كهدية على أهلها. والأبيض مثل نارية السعير والجحيم في النار. وقد ظهر مدى استيعاب الفنان أحمد نوار لهذا العنصر وتوظيفه من خلال تلك الدرجة الناصعة للأبيض والثى جاء بها في اللوحة اليسرى الممثلة للنار. فظهر أبيضها وكأنه يشع حرارة تعكس نيرها وسعرها. وبل وعكس صوت زفيرها وتغيظها المخلوطان بالصرخات واﻷنات.

 إن مثل هذا العمل الذي يعكس جملة فنية ثرية وراقية. أبدا لم يكن مجرد عمل فني لفنان شاب موهوب ومبدع من طلاب الفنون الجميلة أنتجه في ستينيات القرن الماضي، بل يطفو على السطح من جديد ليحاصرنا بالعديد من القضايا واجبة الطرح والمناقشة المجردة والحقيقية. فالعمل أبدا لم يتوقف عند مجرد مشروع تخرج لطالب موهوب ومجتهد ومجد. بل تخطى في وجوده مبدعه نفسه وهو الفنان الكبير د. أحمد نوار. ولا يجب أن نتوقف عند مجرد قراءته وتحليله. لقد أحدث منه الفنان أحمد نوار معادلة الفن الصعبة والثى تتخطى تجربة الفنان الذاتية، لتصل إلى إحداث التفاعل مع أرض الواقع. وقد أخذتني تلك اللوحة مجبرا إلى جملة إشكاليات ذات علاقة بالحاصل لما نعاصره من فجاجة وتبجح باسم الفن وحداثته وما بعدها. وربما لا يتسع المقال إلى الخوض في تلك الإشكاليات تفصيلا. ولكن يبقى أن نشير إليها بالبنان. ونطرحها في جملة استفسارات في حاجة إلى إجابات تشفى الغلة. 

  • متى نرجئ جملة الحداثة في مناهج التدريس حتى نمكن طلابنا في الفنون من جملة اﻷصالة الضرورية والثى تعد بمثابة حجر اﻷساس لما يليها، وحتى نمكنهم من مهارة التأصيل لمنجزهم حتى لو كان يتعامل مع خيال المستقبل البعيد وحداثته وتطورات فكره؟
  • أين معايير اﻷكاديمية في ضرورة إلزام طلاب الفنون بتلك الجملة ذات العلاقة بأصول الكلاسيكية والثى أفرزت مثل ذلك العمل المهيب في المفهوم والتنفيذ، والذي ما زال يحتفظ بطزاجته وحضوره على مر ما يزيد على أربعة عقود ونصف العقد؟ 
  • أين برامج الاحتكاك الخارجي لطلاب الفنون كمثل تلك الرحلة التي أفرزت عملا بمثل تلك الموهبة. رغم تطور برامج التدريب والمناهج من الناحية النظرية؟ 
  • أين شخصية خريج الفنون والذى أصبح في بعض اﻷحيان مسخا لمدرس أكاديمي، ربما يملك إبداعا نظريا وأكاديميا، ولكنه أبدا ليس بفنان بل يدعى كونه كذلك؟ 
  • أين إبداع من يملؤون المطبوعات ويسبق أسمائهم صفة فنان ويختبؤون وراء جملة حداثية أوربية ينجزونها بركاكة، ويغلفونها بتنظير مفتعل لا علاقة له بجملتهم البصرية، ويضعون قناع الدرجات العلمية ليختبؤوا ورائه؟
  • متى سنفصل بين المبدع الحقيقي وبين أعضاء هيئات التدريس الذين هيمنوا على الواقع التشكيلي المصري وأحدثوا فيه الفساد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ 

 إن هذا العمل لهو واحد من اﻷعمال الجديرة بالتوقف عند عتباتها، حيث أجد في قراءتها تلك المتعة المزدوجة الجانب. فجانبها اﻻول هو استمتاعي بقراءة عمل فنى أطلقه مبدعه ﻹشباع رغباته وإسكات مثيرات اﻹبداع لديه أيا كان مقصدها، وأحدث لدى تلك البهجة الحسية والمتعة البصرية، وأثرى المكتبة البصرية المصرية في تاريخها الحديث والمعاصر. وأما جانبها الثاني فهو كون مثل هذا العمل يتحول من وجهة نظري إلى معيارا للقياس، ومثيرا يجتذب إشكاليات ظهرت بعد إنجازه بما يقرب من عقود خمسة. 

إن لوحة (يوم الحساب) هي واحدة من اﻷعمال التي تشعرنا بتلك القيمة الفنية الكبيرة ﻷحد أبناء الفنون الجميلة، والثى نفخر بمشاهدتها ومطالعتها بصريا. وواحدة من اﻷعمال التي تضفي الثراء على المنجز التشكيلي المصري مع مثيلاتها من أعمال الكبار والمبدعين، فتحية إلى هذا العمل البانورامي المهيب وتحية إلى مبدعه الفنان الكبير ا.د أحمد نوار والذي أتحفنا بمثله وأثرى واحدا من متاحفنا وهو متحف الفن المصري الحديث به، ويبقى سؤال أخير حاولت مرارا تفادى طرحة ولكن دعوني أختم به قراءتي المتواضعة لعمل واحد من فناني مصر الكبار والمبدعين، رغم كونى أعتبره سؤال فرضية جدل. 

ماذا لو اتخذ الفنان الشاب الموهوب أحمد نوار قرارا بممارسة الفن متفرغا بعيدا عن الحقيبة اﻹدارية؟. 


أحمد نوار فنان تشكيلي مصري حاصل على الأستاذية في الرسم المعادلة لدرجة الدكتوراه عام 1975 من “أكاديمية سان فرناندو” في إسبانيا، ومؤسس وعميد كلية الفنون الجميلة “جامعة المنيا” بين 1982 و1988، وأستاذ ورئيس قسم الجرافيك المنتدب بالكلية ذاتها بين 1983 و1988، ورئيس قطاع المتاحف في “المجلس الأعلى للآثار” بين 1994 و1999، ورئيس قطاع الفنون التشكيلية في “وزارة الثقافة” بين 1988 و2006، ورئيس مجلس إدارة “الهيئة العامة لقصور الثقافة” بين 2006 و2008. شغل عضوية العديد من الجماعات الفنية المحلية والدولية منها “جماعة لاتينا مايوركا” في إسبانيا، و”جماعة الـ 15″ في مدريد لفن الجرافيك، ومجلس إدارة “نقابة الفنانين التشكيليين”، ومجلس إدارة “هيئة قصور الثقافة”، والمجلس الاستشاري في “المؤسسة الدولية للسير الذاتية” في المملكة المتحدة وغيرها. كما نال عدداً من الجوائز المحلية منها جائزة الدولة التشجيعية عام 1979 إضافة لجوائز دولية في النرويج وبولندا وإسبانيا، ونال كذلك العديد من الأوسمة المحلية والدولية منها وسام الدولة للفنون والعلوم

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s