د. ناجي التكريتي
اللوحة: الفنان السوري نعمت بدوي
عاطفي أنا، مرهف الإحساس منذ نعومة اظفاري، ولا يقر لي قرار. تثيرني الكلمات، شديد الاندفاع، ليس هناك وسط في حكمي على الأشياء، ولا توسط ولا اعتدال. الحقيقة عندي ما تبدو لي انها حقيقة، وكل شيء ما عداها وهم وخيال.
الشيء الذي يحيرني في نفسي ويبعث عندي على الحيرة والارتباك، ان احلام اليقظة لازمتني، منذ وقت مبكر في حياتي. اينما وليت وجهي، اراني وسط فيض من الأحلام، التي ترفعني على اعرافها عالياً، حتى اكاد أمس جبين السماء.
لم اشعر، في يوم من الأيام، ان الحزن قد اغرقني في لجته العميقة، ولا الفرح حلق بي إلى ما وراء حدود الزمكان. إني بالحقيقة، في حالة مد وجزر، بين هذا وذاك، يبدو لي إني قد تأقلمت على الجو الجديد، حتى أصبح مكملاً لحياتي، أو بالأحرى، إنني صرت جزءاً منه، من حيث أدري ولا أدري.
لا أخفي على أحد، إنني احس بنغمة موسيقية تجري في دمي انّى حللت وانّى توجهت، إني اشعر بالتناسق الهرموني، بل اكثر من هذا، إنني أسير على هدى هذا التناغم، من دون تخطيط ولا تصميم.
اذكر إني منذ طفولتي المبكرة، إنني حينما اكون سائراً مع مجموعة من الأقران، اشعر كأنني امشي في الطريق وحدي، احس ان لي عالمي المغلق، او ان هناك طوقاً يطوقني، وان هناك فاصلاً يفصلني عن الآخرين.
كنت في مرحلة طفولتي، او بالأحرى في مرحلة التحول من ايام الطفولة إلى الصبا، إذا رأيت جنازة محمولة على اكتاف الرجال، وهم يسرعون الخطو بها إلى المقبرة، تحدثني نفسي، ان اصرخ بالرجال ان يتوقفوا، كي أسرع فاكشف الغطاء عن الميت ليرتد حياً كما كان، فينقلب الحزن إلى فرح، ويتحول المأتم إلى سرور.
مفاجآت تحدث لي ليست على البال، وفيوضات روحية تطفوا على الضفاف، حتى ليبدو النهر في حالة طوفان كيف يعود النهر نهراً إذا ما غمر ماء الفيضان ضفاف النهر، وطغى على الجوانب بجنون مباغت، ومن دون سابق إنذار.
على ذكر النهر والماء فانا سباح ماهر، وقد اجدت رياضة السباحة في زمن مبكر من حياتي، كنت اعوم بسهولة من جانب النهر إلى الجانب الآخر على الرغم من عرض النهر وبعد المسافة بين الشاطئين.
انا لا اعرف، ما الذي يجعلني أقف على شاطئ النهر في كثير من الأحيان، واتمنى لو إنني استطيع المشي على سطح الماء! اكثر من هذا، فان نفسي تحدثني ان اخطو الخطوة الأولى، ولكنني استيقظ في اللحظة التالية، فأعي امري على التمام.
إني قد اذهب في احلام يقظتي، ان اقفز قفزة واحدة من الشاطئ الذي أقف عليه إلى الشاطئ الآخر بطرفة عين، يخيل إليّ، لو إني حلقت في الفضاء بهدوء وراحة بال، بدلاً من القفزة الواحدة، حتى احط على الجانب الآخر بهدوء وراحة بال.
تأخذني أحلام اليقظة إلى حالة لا طاقة لي بها ولا قدرة لي على تحقيقها، أراني أسير في دروب المدينة وحدي، فيقبل من الجانب الآخر رجل أعمى يتحسس طريقه متعثراً، يتوكأ على عصاه، تحدثني نفسي أن مسح وجهه بكفي فيرتد بصيراً.
انا نفسي لا اعرف ما هي الهواجس التي تأخذني هذا المأخذ، او تقودني إلى هوى النفس من حيث لا طاقة لي برد ما انا عليه، ولا انا اذم نفسي، حين تنغمس في احلام ما ورائية، ولا ارى منها إلا تموجات السراب.
موجة في اثر موجة، وانا السباح في بحر الغمام، لا انا ادركت الهدف، ولا تموجات الغمام تخلت عني، لا البحر تحدى حدوده، ولا انا ادركت المذام.
***
لا شك ان النور غير الظلام، ان الظلام ممقوت من لدن الجميع، وان النور محبوب او مطلوب من لدن الجميع، ان الإنسان، كل إنسان، يميل إلى الجانب المنير إذا ما سار في الطريق، ويتحاشى الجانب المظلم.
السبب واضح ومعروف، لان الدرب الذي يسود فيه الظلام غير مأمون العواقب، وقد يكون مليئاً بالحفر والعثرات، او تنتشر فيه الحجارة، على ان الطريق المنير واضح القسمات.
ان الإنسان بعامة يتذكر الجانب المشرق من حياته، ويغض طرفاً عن كل ما هو معتم في مسيرة الحياة، اكثر من هذا، ان الإنسان يتألق طرباً، إذا ما استعرض ذكريات ايامه المضيئة، غير انه قد يشعر بالكمد والانكماش، إذا تراءت امامه ساعات الحزن والخسران.
إني حين اعود القهقرى إلى ايام الطفولة اذكر ان دروب المدينة، كانت تضاء بالفوانيس، لم يكن هناك كهرباء في المدينة، لأن الكهرباء قد ادخلت في فترة لاحقة، الفانوس كان يعلق بمسمار او مسامير تدق في جدار أحد البيوت، المسافة بين فانوس وآخر كانت بعيدة.
المهم ان الظلام هو الذي يسود في طرقات المدينة، ان المسافة التي يرسل الفانوس إليها الضوء محدود بعده أذرع مربعة، إن ضوء الفانوس خافت بطبيعة الحال.
ان اغلب الرجال الذين كانوا يذهبون في زيارة لأقربائهم، او يقضون عندهم فترة المساء، وهي تعرف (بالتعلولة)، يحملون فانوساً صغيراً في ايديهم، لينير الطريق، ولا سيما إذا كانوا بصحبة عوائلهم.
اما نحن معاشر الأطفال، وكنا في العادة نلعب خلال ساعات المساء في ساحة المحلة، تحت ضوء الفانوس الكليل، الحقيقة اننا لم نفكر بالضوء ولا اهتممنا به، بقدر اهتمامنا بممارسة الألعاب، التي يسودها الهرج والمرج، وقد يسودها العراك والخصام، مع ذلك كنا نجوب في طرقات وازقة المدينة المظلمة، راكضين متدافعين، إذا ما اقتضت إحدى اللعب ذلك، مثل لعبة (عسكر وحرامية) او ما اشبه، لم نفكر في ظلمة الليل، وما قد نلاقيه من عثرات، لان المهم عندنا ان يكسب فريقنا اللعبة، ضد الفريق الآخر.
بعد هذه المقدمة، اطرق باب المشكلة، التي انا بصدد تناولها، ان الأمهات طالما يعكرن صفو الألعاب الليلية علينا، إنهن يحذرن من ولوج الطرقات المظلمة، بسبب حرصهن علينا، وربما هن يردن ان نقضي ساعات المساء في البيوت، لقراءة واجباتنا المدرسية.
الأمهات طبعاً في ذلك الوقت اميات، يصدقن الأساطير الشعبية، ويتناقلنها كحقائق لا تقبل التأويل او التكذيب، اكثر من هذا، إنهن ينقلنهن إلى اطفالهن، من دون تخفيف او تشذيب.
على ذكر الظلمة والظلام، فان امهاتنا بعامة، كن يحذرن من اللعب او الركض في ساحة المحلة وما يتفرع عنها من طرقات، إذا كان الفصل صيفاً، فالأمهات يحذرن من وجود العقارب والحيات، اما في الفصول الأخرى، فإنهن يحذرن من الطرقات المظلمة.
قد يبلغ بهن الأمر، ان يقلن ان كل درب مظلم فيه شيطان، حين نسأل عن شكل الشيطان او لونه او حجمه، يصفنه بأوصاف مفزعة مخيفة، لإدخال الرعب في قلوبنا، حين نظهر عدم تصديقنا لهذا الوصف، سرعان ما يقلن ان الشيطان ربما يظهر بصورة قطة سوداء، او كرة من الغزل سرعان ما تتدحرج وراءنا.
لا اخفي عن احد، إنني لا انا ولا اقراني من اطفال المحلة قد رأى شيطاناً او صورة اخرى تمثل الشيطان، مع ذلك، فقد غرس في اعماقي الخوف من الظلمة، او كره الظلام، على الرغم من تقادم الأيام.