يوميات هناء في نيويورك – الخريف في كيبيك

يوميات هناء في نيويورك – الخريف في كيبيك

هناء غمراوي

اللوحة: الفنان الفلسطيني حنّا كعبر

ها هو الخريف الثالث، من العام الثالث، لحلول الجائحة يطلّ.

عدت الى نيويورك بعد غياب حوالي ستة أشهر، قضيتها متنقلة ما بين لبنان والسعوديّة والإمارات العربيّة. وصلتُ هناك في الأسبوع الاوّل من شهر أكتوبر، وكان بانتظاري مفاجأة غير متوَقَّعة من ابنتي ندوة التي تقيم في نيويورك لحوالي عشر سنوات. 

– سنزور مونتريال كندا الاسبوع القادم، لقد حجزت مع صديقة لي كوخاً خشبيا في الجبل، قالت ندوة.! 

كان الموضوع مفاجأة حقيقيّة لي. فنحن لم نناقش هذا الموضوع من قبل. كل ما في الأمر أننا أتينا على ذكره الخريف الماضي، عندما كنا في زيارة لمدينة بوسطن، ولفتني مشهد الطبيعة، وجمال اشتعال اشجارها في هذا الفصل. ودار بيننا حديث على ما أذكر بأن جمال الطبيعة في كندا يفوق بدرجات، ما رأيناه في الطريق إلى ماساتشوتس؛ وذلك أنه كلما اتجهنا شمالاً زاد الخريف جمالاً وزادت الأشجار اشتعالاً.

بداية الاسبوع الثالث من شهر أكتوبر/ تشرين الأول كان موعدنا. حوالي الثانية عشرة ظهراً غادرنا نيويورك شمالاً باتجاه الحدود الكندية. كان يلزمنا بحدود الست ساعات والنصف دون توقف لنصل هناك. وحوالي خمسة عشر دقيقة اضافية لنكون داخل قرية Mansonville في مقاطعة Quebec الكنديّة المتاخمة للحدود الأميركية. حيث تم حجز شاليه لإقامتنا هناك.

لم يكن الاختيار عبثياًّ، ولكن لكي نختصر ساعتين إضافيتين من القيادة لنصل الى مدينة مونتريال، التي قررنا زيارتها يوم الأربعاء من جهة، ولقضاء وقت ممتع في أحضان الطبيعة الخلابة في هذه القرية.

هكذا خططت ندوة، الرأس المدبِّر لهذه الرحلة.

كان علينا اجتياز عدة ولايات صعودا، Connecticut و New Hampshire قبل الوصول الى ولاية Vermontالمتاخمة للحدود الكنديّة. وكان من الطبيعيّ التوقف أحيانا للاستراحة. أو لأخذ صورةٍ ما لمنظرٍ خلّاب استوقفنا، لشجرة تتدرج الألوان على أوراقها كأنها قوس قزح.

عندما غادرنا Vermont ووصلنا الحدود الكندية كان الظلام قد خيّم تماماً. لم يستغرق توقفنا هناك سوى دقائقَ قليلة، أجبنا خلالها على أسئلة رجل حرس الحدود الكثيرة، والذي استغرب من هدف قدومنا من نيويورك الى قرية Mansonville بأنه فقط للاستجمام، وأخذ بعض الصور للطبيعة في هذا الفصل من السنة.

وصلنا الى الكوخ الخشبيّ (Log cabin) بحدود السابعة والنصف مساءً. لذلك لم نستطع تبيّن المكان تماماً. الضوء الخارجيّ الموجود سمح لنا بمعرفة أن الكابين موجود على مدخل الغابة، لا تفصله عن الطريق العام سوى امتارٍ قليلة. السكون مخيم تماماً على المكان.. لا يقطعه الا صوت فيروز الشجي، في اغنيتها التي خزنتها في سمعي، وظلت تتردد في اللاشعور…”بيتي زغير بكندا ما بيعرف طريقه حدا…”

لم يكن بيتاً صغيراً! كان كوخاً خشبياً من الخارج، ولكنه لا يحمل من مواصفات الكوخ سوى اسمه، وشكله الخارجيّ فقط. كما أنه لم يكن من الداخل كوخا صغيراً كما هي الصورةً النمطيّة، التي حفظناها له في حكايات سندريللا، والسبعة أقزام!. كان عبارة عن بيت سكنيّ، واسع وحديث. كل ما فيه يبعث على السكينة والراحة. يمتد على مساحة لا بأس بها، في طابق ارضيّ وحيد. اول ما لفت انتباهي عند الدخول، مدفأة خشبيّة تتتوزع حولها اريكتان بألوان دافئة منسجمة مع ألوان الارضية والجدران الخشبيّة. في زاوية الصالة تدلت من السقف ارجوحة من القش بجانب طاولة الطعام المستديرة. النوافذ كثيرة وواسعة تسمح للجالسين في الداخل بمشاهدة الغابة المحيطة، بأشجارها الباسقة. غرف النوم عديدة وتطل أيضاً على الغابة المحيطة؛ ما سمح لكل منا باختيار غرفته الخاصة. أما المطبخ فكان حديثًا ونظيفاً ومجهزا بكل ما يلزم المقيم. قد أكون الوحيدة الذي لفت انتباهي مساحة ومحتويات ذلك الكوخ، باعتبار أن ابنتي وصديقتها، التي كانت تشاركنا رحلتنا، قد اطلعتا على معظم هذه التفاصيل عبر الانترنت من خلال الصور المرفقة، قبل الاتفاق على اكترائه.

بسرعة وضعنا حقائبنا في الغرف، التي تم اختيارها، ثم تشاركنا المهام المتوّجبة علينا كإعداد العشاء واشعال المدفأة، قبل الانصراف الى سهرة استرخاءٍ وهدوء بعد اجتيازنا كل هذه المسافة الطويلة بالسيّارة. ما هي الا ساعة من الزمن حتى بدأت السنة اللهب المنبعثة من قطع الأخشاب المشتعلة داخل المدفأة تتراقص على موسيقى الجاز القديمة، التي يعود تاريخ انتشارها لثلاثينات القرن الماضي. نعمنا ببعض الراحة والهدوء وشعرنا بسكون المكان وحميميته، ونحن نرتشف أكواب الشاي الساخن ما أزاح عنا تعب ذلك النهار. ولكننا لم نستسلم لذلك الجو الدافئ والجميل، فنطيل السهر. لان ما ينتظرنا في الغد يستوجب الاستيقاظ باكراً. 

حوالي التاسعة صباحاً خرجنا الى الحديقة الخلفيّة حيث كان حوض الجاكوزي الساخن وغرفة السونا بانتظارنا. لم تكن المرة الأولى التي استخدم فيها مثل وسائل الترفيه تلك! الفرق انني كنت استعملها داخل أماكن مغلقة، وبخاصة في النوادي الرياضيّة. لا شك ان متعة مشاهدة طبيعة الخريف وأوراقة المتساقطة من داخل حوض الجاكوزي تفوق بكثير متعة استخدامه من داخل مكان مغلق.. كان الجو لطيفاً. قضينا وقتًا ممتعاً.

بعد الظهر تحسّن الطقس قليلاً وغابت زخات المطر التي طالعتنا في الصباح. بهدف استكشاف المكان خرجنا بالسيارة. وتجولنا بين الحقول الواسعة، حيث كانت قطعان الأبقار تسرح ناعمة بالدفئ الذي ترسله اشعة الشمس الخجولة، على تلك البقاع الشاسعة وتحوّلها الى لوحاتٍ يعجز عن محاكاتها أهم الرسامين العالميين..

قرابة السادسة مساءً عدنا الى كوخنا بعد ان ابتعنا من أحد متاجر البلدة بعض الأخشاب، زاد المدفاة لتلك الليلة. 

سهرتنا كانت شبيهة بسهرة الأمس مع اختلافٍ في الاحساس بالتعب الذي رافق سهرة أمس لا شك؛ وبخاصة بعد قضائنا وقت ما قبل ظهر ذلك اليوم في الراحة والاستجمام.

صباح الأربعاء عقدنا العزم على زيارة مدينة مونتريال. كانت زيارة قصيرة ليوم واحد فقط. مونتريال تبعد عن منطقة مانسونفيل الحدودية حوالي ساعة ونصف بالسيارة. وصلناها بحدود الواحدة ظهرا. 

اول ما لفت انتباهي في تلك المدينة، ذات الطابع الفرنسيّ، طبيعة الأبنية وطبيعة المارّة بطريقة لباسهم، وبخاصّة بعض النساء اللواتي كن ينتعلن الكعب العالي والمعاطف الأنيقة، في وضح النهار. وبسرعة لاحظت الاختلاف الواضح في الأزياء، وفي اللا شعور أجريت مقارنة بينهم، وبين سكان مدينة نيويورك بلباسهم العمليّ، والبسيط.

كان أمامنا عدد محدود من الساعات لاكتشاف المدينة! وبحسب نصيحة صديقٍ مقيم هناك. قصدنا Belvedere في المنطقة الأكثر ارتفاعاً في المدينة، والتي تسمح بمشاهدة معظم معالمها. وكذلك، مشاهدة أحد الجسؤر العملاقة، الذي يمتد فوق نهر سان لوران، والذي يشكل عصب الملاحة البحريّة فيها. 

المحطّة الثانية كانت زيارة وسط المدينة ومرفئها القديم (Vieux port).

اول ما ترجلنا من السيارة لفحتني موجة صقيع جمدت الدم في وجهي، فانا الآتية من الشرق لم يخطر ببالي أن تتدنى درجة الحرارة لهذه الدرجة، في أيّ مكان، في مثل هذا الوقت من السنة. لذلك لم أتحصّن بإحضار معطف شتويّ، يقيني هذا الصقيع. ولكنني تحديت قسوته وتابعت جولتي داخل المدينة القديمة، حتى لا أفسد على أبنتي متعة التجول هناك. لأنها انشغلت بالدخول الى بعض المحال بهدف شراء معطف لي؛ فادعيت أنني في أحسن حال.

قصدنا المرفأ القديم، حيث تجمعت بعض اليخوت على شاطئ سان لوران. وامتد عدد لا يستهان به من الأكشاك الصغيرة، الحديديّة المطلية باللون الأحمر. والتي كانت بمعظمها مقفلة. وقد فسرت لنا سبب هذا الاقفال الجماعيّ، صاحبة أحد الأكشاك؛ مواطنة كندية، بلجيكية من أصول هندية، والتي كانت تعرض علينا بضاعتها من قبعات، وعباءات شرقية وشالات صوفيّة. قالت؛ بأن الموسم ربما انتهى بالنسبة للسياح بسبب برودة الطقس، وهناك ستة أشهر قادمة من الراحة. وعلقت ابنتي مبتسمة “إنه السُبات الشتويّ”.

خلال تجوالنا على الشاطئ، ظهرت لنا كنيسة قديمة، ولكنها كانت مقفلة في وجه الزوّار لأسباب لم نعرفها. وبما أن الطقس البارد لم يسمح لنا بالتجوّل براحة وحرية قفلنا عائدين الى مانسونفيل قبل أن تغيب شمس ذلك النهار، لنصطلي بنار مدفأتنا في الليلة الأخيرة ما قبل عودتنا الى نيويورك.

صباح الخميس، كان اليوم الأخير من رحلتنا، وبحسب القانون المتّبع كان علينا اخلاء الكوخ، والمغادرة تمام الحادية عشرة قبل الظهر. أحضرنا حقائبنا وبعد تناول الفطور كانت لنا جلسة وداعيّة مع الطبيعة هناك، في جلسة استراحة أمام الكوخ مع القهوة العربيةّ؛ مستغلين الطقس الدافئ الذي عوضنا عن القرّ، الذي سلخ وجوهنا في مونتريال.

في طريق العودة الى نيويورك سألتني الصديقة الأميركية، التي تشاركنا هذه الرحلة، والتي كانت تتولى قيادة السيارة بالتناوب مع ندوة: “هل ما زلت مصممة على زيارة Albany؟ أجبتها على الفور نعم.

أخبرتني أن طريق العودة قد يستغرق حوالي ساعتين اضافيين. لم أعلّق على المعلومة الجديدة! فشغفي لزيارة المدينة حرّك داخلي شعوراً من الأنانيّة جعلني أرضى بزيادة مشقة ساعتين من القيادة على ابنتي وصديقتها.

لكي نزور مدينة Albany وهي العاصمة السياسية، والادارية لولاية نيويورك؛ كان علينا أن نسلك طريقاً آخر غير الذي سلكناه سابقاً. 

وكان لا بد بالطبع من استراحة، أو أكثر قبل الوصول الىAlbany. المحطة الأولى كانت في مدينة Burlington، وجلسة شاي داخل مقهى المتحف الموجود على شاطئ بحيرة Champlain. أما الاستراحة الثانية، فكانت في مطعمٍ يوناني صغير على أطراف ولاية Vermont المتاخمة لولاية نيويورك من جهة الشرق.

بعد عدة ساعات وصلنا Albany كان الظلام قد خيم تماماً، خفت الحركة، وأقفلت معظم المحال فيها. قصدنا قصرها البلديّ، الذي كان يرتفع لعدة طوابق. كانت واجهته الأماميّة مضاءةً باللون الأزق المائل الى الليلكيّ. أخذت بعض الصور التذكاريّة هناك. أبنية المدينة حجرية، قديمة تشبه مباني مدينة فيينا. العراقة ظاهرة للعين. وليس بينها، وبين بعض احياء نيويورك في استوريا وبرونكس، أي شبه ظاهر. كانت زيارة قصيرة جداً..

حوالي الثامنة مساءً غادرنا العاصمة، باتجاه أستوريا نيويورك، التي وصلناها بحدود الحادية عشرة ليلاً. 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s