القلب المفتوح

القلب المفتوح

أيمن جبر

اللوحة: الفنان السعودي محمد الرباط

هل أنا سعيد؟.. فتشت في ذاكرتي عن المواقف التي ظننت نفسي فيها سعيدا؛ التخرج، انتهاء فترة التجنيد، الحصول على وظيفة، الزواج، الإنجاب.. محطات كثيرة في حياتي أصبحت خلفي وصرت أبحث عن مذاقها في ذاكرتي – رغم سابق اللهفة الشديدة في انتظار بلوغ تلك الأهداف – إلا أن مجرد الوصول إليها يعقبه شعور قصير بالراحة والرضا ثم تطوى الصفحة سريعا ويعقبها سعي لحلم آخر ولمرحلة تالية.

إن شعور السعادة مثل الأفلام والقصص العربية، يستمر الصراع طوال القصة وتكون النهاية السعيدة في آخر صفحة في القصة ثم تقلب الصفحة فتجد أمامك غلاف الكتاب، ولو امتد عرض القصة التي انتهت بزواج البطلين بعد طول كفاح لتولدت قصص طويلة لها مسارات تتفرع منها نهايات عديدة، فالإنسان يتطلع دوما للمرحلة التالية وعند حدوثها يصيبه فيروس الاعتياد ثم يكتشف أن لذتها الصافية نالها عندما كانت حلما وجنينا ينمو في فكره، فلما أصبحت حقيقة واقعة استردت حجمها ولونها الحقيقي وأصبحت شيئا عاديا و حل محلها حلم آخر أضخم في صورته وأزهي في ألوانه، فلحظات السعادة محطات لا تدوم كثيرا والذي يطول هو الرحلة التي تعقب مغادرتك المحطة إلى حلم جديد.. ولكني لا يمكن أن أنسى طعم سعادتي يوم نجوت من عملية “القلب المفتوح”!، فتلك لحظة السعادة السرمدية التي لا تخبو ولا تنطفئ.

تمددت في غرفة العناية بعد عمل كشف تليفزيوني لشرايين قلبي (قسطرة)، وضع الطبيب ثقلا مكان دخول الخرطوم حتى يلتئم الجرح. طلب مني أن أظل هكذا دون حراك حتى الصباح.

لم أستطع النوم.. كيف أنام بعد الذي صارحني به! أخشى أنني على وشك نوم طويل. أنظر إلى الممرضات من حولي يتنقلن بين الأسرة وكأن بيني وبينهن برزخا وهميا.. وكأني أطل عليهن من العالم الذي أخشى أن أرحل إليه وأحسدهم لنعمة الحياة التي أشعر أنني أتزحزح عنها.

قمت أستعرض حياتي الماضية ففتشت فيها عن أي منحنيات أو نتوءات أستطيع أن أرجو الرحمة والمغفرة بها فوجدتها حياة منبسطة في غالبها، حياة تقودها العادة والروتين والبرمجة السلوكية والشعورية.. ولكن وجدت مواقف قليلة نبيلة -لا أرجو فيها إلا وجه الله – نشرت السكون في نفسي قليلا لولاها لكنت من المفلسين.. ولكنها لا تكفي فلو صدقت مع نفسي وحكمت عليها لما أعطيتها درجة النجاح في الحياة!. 

أخرجت ورقة وقلما وأخذت أنفس عن شعوري بالصدمة. كتبت أستغيث الله أن يرحمني ويعطيني فرصة ثانية للحياة إن كان في علمه أنني سوف أصلح، وإلا فليأخذني في رحمته التي وسعت كل شيء.

تقدمت ممرضة وسألتني وقد قرأت ما في وجهي من جزع: 

“أنت خائف يا أبي؟”.. أومأت لها برأسي.

رجعت بذاكرتي إلى الوراء حين ذهبت لطبيب القلب وأجريت كافة الاختبارات، الاختبار الأخير يتطلب الجري عشر دقائق، أتممته دون توقف ثم قال لي: أنت ما شاء الله قمت بكافة الاختبارات والنتيجة سلبية ولكن يتبقى القسطرة، ربما وجدنا انسدادا في شريان فرعي وليس تاجي.

خضعت للقسطرة وظللت أتسلى بمشاهدتها على الشاشة وهي تمر في شراييني.. أحسست فجأة بألم شديد، وذهبت في غيبوبة ثم أفقت مرتجفا وحولي وجوه كثيرة قلقة.

قال الطبيب: عندك انسداد في شرايينك، وهي متعرجة ولا يمكن وضع دعامات بها، لديك خمسة شرايين تكاد تكون مغلقة ومنها التاجية، لا بد أن تخضع لعملية جراحية الآن فالتأخير ليس في صالحك.

تذكرت أبي الذي توفي في مكتبه دون مقدمات وهو في الأربعينيات من عمره

وقعت على تعهد بأنني أغادر المستشفى بإرادتي متحملا العاقبة، قمت بعرض النتيجة على أطباء آخرين واتفقت الآراء على حتمية العملية.

قال أحد الأطباء من أقربائي: أسرع قبل أن تهاجمك جلطة.. ثم تصبح بعدها الرجل البركة.. سألته متعجبا ما معنى ذلك؟ فغمز لي بعينه وقال: البركة! ففهمت قصده.

كان نومي في الليالي التالية قبل العملية ما هو إلا كوابيس متكررة تنتهي بالنداء عليّ من المساجد “توفي إلى رحمة الله فلان”.أحلم بأنني أقفز بين مرتفعين، إما أتمكن من العبور أو أسقط في الهوة بينهما.

داعبت زوجتي قائلا: لو كتبت لي الحياة فاحرصي أن تكوني أول من يوقظني ويبشرني بالنجاة، وإن لم تفعلي سوف أقوم بتقبيل الممرضة التي أفتح عيني عليها، وأنت تعرفين سحر زوجك وجاذبيته.

ردت في بديهة سريعة، ما تخافش يا راجل يا بركة “أنا الي هافوقك” وضحكنا.

أتذكر ابنتي وهي تصرخ من ورائي، أدركيني يا أمي إن أبي يشاهد العملية في النت! فيسرع الجميع ويغلقون الشاشة سريعا.. وأستسلم لهم.

أعطتني الطبيبة ليلة العملية حبوبا لتهدئتي كي أنام، كنت أشعر باستحالة النوم في تلك الليلة ولكن مرت بسلام.

قبل الدخول إلى غرفة العمليات قام أخي بالتقاط صورة لي وفهمت المقصود.. ربما كانت آخر صورة!، فاستسلمت وابتسمت للكاميرا.

قام الطبيب بتقطيع معظم جسمي بآلات عديدة وأخرج قلبي وأخضعني لجهاز صناعي للتنفس وللدورة الدموية خرجت بعد ساعات طويلة بحمد لله وجسدي يكاد يختفي خلف الأنابيب التي تخرج من كل جانب، خاصة من وجهي.

أفزع هذا المشهد زوجتي وصرخت، لكنها لم تبتعد عني طوال غيبوبتي لأيام. انتظرت زوجتي اللحظة التي يخبرها الطبيب فيها أنني على وشك الانتباه. 

في لحظة لا أنساها سمعتها من خارج الغرفة تنادي علي، أبشر بالحياة يا زوجي!.. كان كالحلم، ولكنه كان أحلى صوت وأسعد بشرى، سمعتها ببعض وعي ثم غبت ثانية.

في أول زيارة لي في العناية وبمجرد رؤيتهم.. بكيت.

قال لي أخي لماذا تبكي؟ أنت أحسن حالا! إن من أجرى العملية منذ أسبوع لم يفق. 

قلت له: أبكي فرحا أن الله تعالى وهبني فرصة ثانية للحياة.

فرصة ثانية كي أسجلها فيما أكتب.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s